26 janv. 2023

عدنان المؤدّب: المُثَقَّفُ"حمّالُ أَلْوِيَةِ" الثّورةِ


عدنان المؤدّب: المُثَقَّفُ"حمّالُ أَلْوِيَةِ" الثّورةِ 

مزار بن حسن


1- مهما حاولتَ أنْ تكونَ حكيمًا في مواجهةِ حَدَثِ الموت، مُخْفِيًا جَزَعَكَ وفزَعَكَ ومُجمِلاً صبرَكَ ومُستَجْمِعًا كُلَّ ما أوتِيتَ مِنْ قُوَّةِ تجلُّدِكَ، فلن تنْجَحَ. لا سِيَّما إذا كانَ الموتُ مُفاجِئًا وكانتْ حياةُ الفقيدِ موصولَةً بِحياتِكَ إلى آخِرِ نُقطةٍ في زَمَنِ ما قبل الموت، وكانَ حُلمُهُ ثائِرًا مُنطلِقًا نحو أبعدِ نُقطةٍ في أُفُقِ رُؤيتِنا المُمكِنةِ. ولا غرابةَ في ذلك، فقديمًا تصوَّرَ اليونانيّون ومِنْ بعدهم الرُّومان أنّ الحكمةَ مُلازِمةٌ لصيحةِ الفزعِ عند الحروب، وهو ما حدَثَ لأثينا، آلهة الحرب والحكمة وحامية المدينة عند اليونان، عندما خرجتْ مِن رأسِ أبيها زيوس حامِلةً رُمْحًا ودِرْعًا، صائحةً ثائرةً في وجهِ أعداءِ المدينة. فالجزَعُ والحِكمةُ لا يتعارَضانِ كما يبدو لنا في الظّاهِرِ. إنَّ الثّورةَ إعلانٌ صارِخٌ وصوتٌ صادِحٌ، قد يكُونُ مُفْزِعًا ولكنّه يُبشِّرُ بمقدَم الحُكماء.

"عدنان المؤدّب" فنّانٌ وسينمائيٌّ ومُثقَّفٌ تونسيٌّ آمنَ بالثّورةِ منذ نُعُومةِ إدْراكِه، وشَبَّ على ذلك الإيمانِ حتّى شابَ عليْهِ قبلَ أوانِهِ. وتَجشَّمَ عِبءَ أحمَالِها بما ينوءُ بأولي القُوّةِ، وبما لا يتحمَّلُهُ جسَدُهُ المُتطاوِلُ النَّحيلُ. رأى في قيَمِها وشِعاراتِها وألوِيَتِها مَا يَراهُ كلُّ فنّانٍ مُثقَّفٍ حالِمٍ ثائِرٍ غاضِبٍ مُتَمَرِّدٍ. وجهُهُ الغاضِبُ تصدَّرَ الصّفحاتِ الأولَى مِنَ الجرائِدِ والمجلاّتِ العالميّة التي كانت تنقُلُ أخبارَ ثورةِ 14 جانفي. جابتْ صُورَتُهُ مشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها، وتحوَّلَ إلى "أيقونة" وعنوانٍ للثّورةِ التّونسيّة.

2- في ختام جلسةٍ من الجلسات التّأسيسيّة لحركة الأمل المدنيّ التّونسيّة التي اِلتأمتْ بفضاء سيدي عبد السّلام الثّقافيّ بقليبية، جاءَنا نبأُ وفاةِ "عدنان المؤدّب" بعد تعرُّضِه لمشكلة صحّيّة في شاطئ حمّام الأغزاز حيث يُشرف مع مجموعة من الشّبّان التّونسيّين على تحضيرات مهرجان الخيمة الصّيفيّة للصّورة والتّعبيرة الفنّيّة بحمّام الأغزاز.

في الفيسبوك علّق الكاتب التّونسيّ "ناصر الرّديسي" على خبر وفاة "عدنان المؤدّب" قائلاً: "النّوبات القلبيّة لا تصيب إلّا القلوبَ التي تخفق حبًّا وعشقا بجنونٍ لهذا الوطن".

تُوُفِّيَ عدنان وهو ينقُلُ أجهزةَ الصّوت والصّورة إلى رُكحِ المهرجانِ. تُوُفِّيَ وهو يحمِلُ إلينا رسالةَ الفنِّ والثّورة بالصّوتِ والصّورةِ.

3- يبدُو أنَّ قَدَرَ المُثقَّفِ الحقيقيِّ على مرِّ العُصورِ هو أن يحمِلَ عَنّا هُمومَنا وأحلامَنا الثّقالَ، وفي كثيرٍ مِن الأحيانِ أوهامَنا. يَصَّعَّدُ بها الجِبالَ والأوعارَ والشّعابَ والأودِيةَ صابِرًا صامِتًا مُحتَسِبًا، ونحنُ نتبَعُهُ ونتظاهَرُ بمعرفةِ الطّريقِ وقُربِ وُصولِنا إلى القِمّةِ طمعًا في المَزيدِ مِنْ تحمُّلِهِ وخَوفًا مِنْ يَأْسِهِ وإضرابِهِ. حتّى إذا تبيَّنَ لنا الهدَفُ سرابًا والوُصولُ إليه مُحالاً، خارتْ قُوَاهُ وسقطَ بأحمالِهِ وأحمالِنا. وليسَ سُقوطُ خَفيفِ الحِمْلِ كسُقوطِ المُثْقَلِ.

تعرَّضَ "عبد الفتّاح كيليطو" في كتابِه "بِحِبرٍ خَفِيٍّ" إلى ما سمَّاهُ: "صورةِ المُثَقَّف حمَّالاً"، وهي عبارةٌ استوحاها من كتاب "خارج المكان" للكاتب الفلسطينيّ الأصل "ادوارد سعيد" الذي تحدّثَ كثيرًا عن رحلاتِه بين الشّرق والغرب وتنقُّلِه وهو يحمِلُ أدباشَه فوق ظهرِهِ. وهو ما جعلَ "كيليطو" يستذكِرُ نماذِجَ لحمَّالِينَ أُسطورِيِّين كالعملاق "أطلس الذي حُكِمَ عليْهِ بِحمْلِ الأرضِ" أو سيزيف وصخْرتِه العنيدة، "وكذلك إينِي، بطل الإنيادة لِفيرجيل، الذي فرَّ مِنْ طروادةَ وهي تحترِقُ حامِلاً أبَاهُ على ظهرِهِ" أو السّندباد الحمّال، صاحب السّندباد البحريّ، ويُسمَّى الحمّال لأنَّ شُغلَهُ حمْلُ أسبابِ النّاسِ أي أثقالهم".[i]

طبْعًا لم تكنْ الخنساءُ تقصِدُ المُثقَّفَ عندما قالتْ في رِثاءِ أخيها صَخْرٍ:

حمَّالُ ألْوِيَةٍ هَبَّاطُ أوْدِيةٍ     ***     شَهَّادُ أَنْدِيَةٍ لِلْجَيْشِ جَرَّارُ

نَحّارُ راغِيَةٍ مِلْجَاءُ طاغِيَةٍ  ***       فَكّاكُ عانِيَةٍ لِلعَظْمِ جَبّارُ[ii]

 

لكنّها أوصافٌ يُمكِنُ أنْ نُطلِقَها على المُثقَّف الحقيقيّ بعد أنْ نتأوَّلَ ما يَجِبُ تأَوُّلُهُ ونُسْقِطَ ما لا يستقيمُ سِياقُهُ مع سِياقِ العصر. إنّه مَلْجَأُ المُستضْعَفينَ والمظلُومِينَ في الأرضِ وكهْفُهُمْ المَنِيعُ. يشهَدُ أنديةَ القومِ ويحمِلُ ألويَةَ الحُلمِ.

4- (حوارٌ دار بين أصدقاء عدنان في اللّيل بعد سماع الخبر بساعات)

محمّد: (مُعلِّقًا على كلام ناصر الرّديسيّ) عدنان لم يكن المتوفّى الوحيد (طارق المكي- فوزي بن مراد...). صورة عدنان في وسائل الإعلام أثناء الثّورة التّونسيّة: رمز وأيقونة. والرّموزُ لا تموتُ، فلا خوفَ من الموت.

مزار: الخوف من الموت له سببُهُ، وهو الشّعور بتكرُّرِهِ وبعدم إتمامِ الرّسالة.

شكري: فيمَ الخوفُ من الموت إذا كانت الحياةُ مغامرةً؟ الموت انطلاقة إلى عالم جديد.

محمد: عدنان شحنة من العواطف الجيّاشة التي لا تخضع إلى السّيطرة. عدنان ليس له قيود تاريخيّة أو ثقافيّة. ومن أجل ذلك تقدَّمَ ليكونَ رمزًا.

أمين: ميزة عدنان أنّه يُطلق العنان لخياله وحُلمِه إلى أبعد حدّ: والمشكلة  أنّ الحدّ الأخير للخيال والحُلم هو الموت. وعلى كلّ حال، هو تجرّأ على الموت ونحن لم نتجرَّأ عليه.

محمّد: هو شهيد الثّورة، ثورة العواطف والمشاعر والوجدان. لا يمكن أن تفشل الثّورة بالنّسبة إليه. حتّى ولو كان دونها الموت. الثّورة لم تأتِ له بكُلِّ ما يحلم ويريد. رُبّما أراد أن يختبر الثّورةَ هل هي حقيقيّة أم وهميّة؟ فإذا بالثّورة تفشل في اختبارهِ.

شكري: قلّة قليلة من النّاس يعشقون الثّورة. ليس لنا خيار إلا التّفاؤل. لن نرثيَ موتانا حتّى لا نترك الحياة في أيدي مَن لا يؤمن بالحياة، وحتّى لا نُسلِّمَ مفاتيحَ الثّورة إلى مَن لا يُؤمن بالثّورة. لا مكانَ للرّثاءِ بيننا. لن نأخُذَ من الخنساءِ إلاّ بعضَ ما كانَ يفعلُهُ صخرٌ. أيْ ما هو جديرٌ أن يظلَّ رمزًا.


موقع الأوان (19 أكتوبر 2016)



[i]  عبد الفتّاح كيليطو، بِحبرٍ خَفِيّ، الأعمال، الجزء الأوّل، الدّار البيضاء، دار طوبقال للنّشر، ط1، 2015، ص 379.

[ii]  نصوص أدبيّة لتلاميذ السّنة الرّابعة من التّعليم الثّانويّ، الجزء الأوّل: في الأدب القديم، إشراف حمّادي صمّود ومحمّد الهادي الطّرابلسيّ، المركز القوميّ البيداغوجيّ، تونس، أوميقا للنّشر، بدون تاريخ، ص 61.

27 août 2019

الصُّعُودُ إلى بُرجِ قليبية

على هامِشِ مهرجان "ليالِي البُرج":

الصُّعُودُ إلى بُرجِ قليبية


الصُّعُودُ إلى بُرجِ قليبية ليسَ بالأمرِ الهَيِّنِ كما قد يَبدُو للزَّائِرِ في البِدايةِ. فهذا الصَّرْحُ العَظيمُ الذي تَعاقبَتْ على تَشيِيدِهِ سَواعِدُ الشُّعوبِ شَرقِيِّهَا وغَرْبِيِّهَا، مِنْ بربرٍ وقرطاجِيّينَ ورُومانٍ وإغريقٍ ووندالٍ وعَربٍ وتُرْكٍ ... ذاك الطَّوْدُ الشَّامِخُ الذي يَتراءَى سِحرُهُ للنَّاظِرِ من بعيدٍ، إنّما ينتصِبُ كالتَّاجِ على رَبْوَةٍ مُحاذِيَةٍ للبحرِ يبلُغُ اِرْتِفاعُها عنهُ سبعةً وسَبعينَ مِتْرًا. وهو اِرْتِفَاعٌ كافٍ لِجَعلِكَ تَلْهَثُ وتتوقَّفُ مِرَارًا لِالْتِقاطِ أنفاسِكَ وإمْتاعِ ناظِرَيْكَ بِزُرْقَةِ البحرِ إذا كُنْتَ مُتَرَجِلا. وحتَّى إذا كُنتَ رَاكِبًا سَيَّارتَكَ، فإنَّكَ لَسْتَ بِبالِغٍ قِمَّتَهُ. لِأنَّكَ إذا وَصلتَ إلى بَوَّابةِ البُرجِ، تنقطِعُ الطَّريقُ المُعَبَّدَةُ ويَبدَأ المَسلَكُ المُدَرَّجُ، فلا خِيارَ لك في مُواصلةِ الصُّعُودِ إلاّ قَدَمَاكَ. وهذا هُو حالُ جميعِ القِلاعِ والحُصُون والرِّباطاتِ في كافّةِ أنحاءِ المعمورةِ: مِن قلعةِ "حلب" إلى سورِ الصّين العظيم وهياكل جبل "أولمب" وأهرامات مصرَ...
هذا الإشكالُ هو الذي اِعترَضَ أيضًا لجنَةَ تنظيمِ مهرجان "لَيالِي بُرج قليبية" منذُ ثلاثِ سنواتٍ. إذْ كيف لهم أنْ يَنْقُلُوا تَجهِيزاتِ المهرجانِ مِنْ رُكحٍ وديكُورٍ وكراسيّ وطاولاتٍ وآلاتٍ مُوسِيقِيّةٍ ووحداتٍ صوتيّةٍ وغيرِ ذلك ممّا يقتضيه تقديمُ العُرُوضِ المُوسيقيّةِ والمسرحيّة والسِّينمائيّة ومعارِضِ الرّسم وغيرِها... كيف لهم أن يصعَدوا بها إلى أعلى الرّبوة؟ وقد اِجتَهدُوا في مُواجهةِ هذه المُعضلة حتّى تَوَصَّلُوا إلى حلٍّ طَرِيفٍ وناجِعٍ في آنٍ واحِدٍ، ألا وهو اِستِخدَامُ الدَّوابِّ المَرْكُوبة. وخَيرُ هذه الدَّوابِّ وأَسْلَمُهَا الحِمارُ. لقد تمتَّعَ رُوّادُ "الفيسبوك" منذ أيّامٍ قليلة بمُشاهدةِ ذلك الفيديو الذي يَظهَرُ فيه حِمارٌ وهو يَجُرُّ عَربةَ "كَرّيطة" عليهَا آلةُ "بيانو" لِيَصعدَ بها إلى رُكحِ "ليالي البُرج" بقليبية تحضِيرًا لعرض الأركستر السّنفونيّ التّونسيّ يوم السّبت 17 أوت الفارط.
كنتُ أنا والفنّان رؤوف قارة نَصَّعَّدُ ربوةَ البُرجِ في عَشِيَّةِ يومِ الثّلاثاء الماضي لِأجلِ حُضُورِ اِفتِتاحِ معرِضِ الرّسمِ الجماعيّ الذي يُشارك فيه رؤوف مع عددٍ من رَسَّامِي قليبية (حيدود- محمد صمود- شكري بن عمر- صادق بن تركية- أورور أليسوني- مراد صمود- عواطف ريدان- ألنكا البلاجي). وبعد الاِفتِتاحِ سيتحوَّلُ الجَميعُ إلى مُشاهدةِ مسرحيّة كوميديّة (ولد شكون؟) لجميلة الشِّيحيّ، تلك المسرحيّة التي مَلَأت الفيسبوك وشَغلتْ النَّاسَ، وأشبَعَهَا حُرَّاسُ الأخلاقِ العامَّةِ وسَدَنَةُ هَياكِلِ المُقَدَّسِ شَتْمًا وثَلْبًا وتَعْرِيضًا، وقد وصلَ بهم الأمرُ إلى شَنِّ حملةٍ فيسبوكيّة من أجلِ مُقاطعةِ المسرحيّة وإفشالِهَا وإقناعِ النَّاسِ بعدمِ مُواكبَتِها، وقد اِعتبَرَتْ بَعضُ هذه الصَّفحاتِ الفيسبوكيّة أنَّ "القليبيّ الحقيقيّ" قلبًا وقالِبًا لنْ يَذهَبَ لِمُشاهَدتِها، وقدْ نَسُوا أو تَناسَوْا أنّهم بتلكَ العمليّةِ يُشْهِرُونَها مَجَانًا. وهو ما تَمَّ بالفِعل، حيثُ أنَّ الجماهيرَ فَزِعتْ للمسرحيّةِ مِنْ كُلِّ صوبٍ وحَدْبٍ، وتَجشَّمَ النّاسُ عَناءَ الصُّعودِ إلى البُرج، وضَحِكُوا وَلَهَوْا واِستمتَعُوا.
ثقافةُ الإهمال:
كُنتُ أحمِلُ اِبنتي "سُلَيْمَى" على كَتِفِي لِعدَمِ قُدرَتِها على مُواصلةِ الصُّعود، وكانَت"حْوِيتَه" كلبَةُ رؤوف تَسْبِقُنا وكأنَّها أعظَمُ شَوْقًا مِنَّا لِرُؤيةِ البرج ومُواكبةِ عُروضِه. لقد كانَ المُرُورُ مِن البوّابةِ الدّاخِليّة التي تَلِي سَقيفةَ مَدخَلِ البُرجِ إلى قاعةِ العرض "L’Oratoire"، أكثرَ صُعوبةً من الصُّعودِ على المُدَرَّجِ. بقايا الحِجارة والأتربة المُكدَّسة هنا وهناك من جرّاء تساقُطِ ما تبقَّى من جدران الحصن البيزنطيّ الموجود داخل أسوار البرج. حجارة ناتِئة في كلّ مكان، بعضُها مُلتَصِقٌ بالأرض، والبعضُ الآخرُ مُتناثِرٌ. نباتاتٌ طُفيليّة وأشواك. لا يعلمُ الماشِي أينَ يَضَعُ قدَمَهُ، فإذا سِرْتَ على التّرابِ تسَرَّبَ إلى داخِلِ حِذائِكَ، وإذا سِرْتَ على الصَّخْرِ فإنّك لا تعلمُ هل هي صخرةٌ ثابِتةٌ أم مُتناثِرة تُوشِكُ أن تنهارَ بِكَ وتتسبّبَ لك في كسرِ ساقِكَ. هذا وقد بدأ الظّلامُ يُرخِي سُدُولَهُ علينا، ولا وُجودَ لمِصباحٍ واحِدٍ في ذلك الممرّ لِيَهدِيَنا إلى سَواءِ السَّبِيل، رغم أنّ لجنةَ المهرجان طلبتْ ذلك مرارًا من المسؤولين عن ذلك المكان من إطاراتِ المعهد الوطنيّ للتّراث، ولا حياةَ لمَنْ تُنادِي...
تَذكَّرتُ هنا نصًّا قرأتُهُ للرّحّالة الفرنسيّ: Victor Guérin يصِفُ فيه حالةَ برجِ قليبية المُزرِية أثناء زيارتِه له سنة 1861، أكداسٌ من الرّدم وحُطام البناءات المُهدَّمة، أشجار تين مهملة وهندي وأشواك، خزّانات مياه ملوّثة عشّشت فيها الخفافيش، وقد فسّرَ ذلك بطريقةٍ فيها كثير من التّحامُل المُغرِضِ علينا، مُعتبِرًا أنّ السببَ في هذه الحالة المُزرِية هو تَهاوُن المُسلمين "L’incurie musulmane"  وغياب عقليّة الصّيانة والتّعهّد لديهم. (*) لكنَّنا رغم كلّ هذا لا نستطيع تكذيب هذا الرّحّالة في ما وصفَهُ، لأنّنا نعلم جيّدًا أنّ التَّهاوُنَ واللاّمبالاة ما زالا إلى حدِّ اليومِ ثقافةً يوميّةً في تونسَ، بل سِياسةً مُنَظَّمةً تنتهِجُها السُّلط المُشرِفةُ على تُراثِنا وثقافَتِنا، لأنّ حالةَ البرج وجميع معالم قليبية وآثار تونسَ عامّةً لا تختلفُ كثيرًا عن الحالة التي وصفها Guérin في كتابِه قبل أكثرَ من قرنٍ ونصف من الزّمن.
يَتَساءلُ رؤوف حائِرًا، وهو لا يعرِفُ أنّنا نَنوِي تكريمَهُ أثناء الاِفتتاح بطريقةٍ مُفاجِئةٍ، فيقُولُ: "كيف سيتمكَّن الشّاعِرُ نور الدّين صمّود والرّسّامُ مُحمّد صمّود مِن الصُّعودِ إلى هذا المكان وقد بَلَغَ بِهما العُمرُ والصّحّة ما بَلَغَاه، وقد أكَّدَا لي أنّهما سيكونانِ مِن الحاضِرِين؟" وفي الحقيقةِ، فإنّنا وَجدناهُما جالِسَيْنِ في الصّفِّ الأماميّ، وقد وَصلا إلى مَكانِ الاِفتِتاحِ على أقدامِهِمَا قبلنا. لقد أثبتَا للجميعِ أنّهُما بَطَلانِ حقيقيَّانِ، لِأنّهما آمنا إيمانًا راسِخًا بعظمة البُرج وحضارتِهِ وثقافتِهِ. لقدْ بُنِيَ البُرجُ بقُوّةِ الإيمانِ، ولَنْ يَبْقَى شَامِخًا إلاّ بقُوّةِ الإيمانِ.
طرد الأرواح الشّرّيرة:
يُفيدُنا الأستاذ عادل تنبان في كتابه: "قليبية عبر التّاريخ"، وفي معرِضِ حديثِه عن الأثاثِ الجنائِزيّ الذي يُوضَعُ في القبورِ البُونيّة الموجودة في "تازغران" و"كركوان" وغيرها من مناطقِ الجهة، أنّ هذه القبورَ تحتوي داخِلَها على أطباق وصحون ومصابيح وأكواب وقناديل وغيرها ممّا يحتاجُ إليه الميّتُ في قبرِه حسب اِعتقاداتِهم، وأنّ بعضَ هذه القبور قد وجدُوا فيها أقنِعةً ضاحِكةً أو ساخِرَةً، وقد كان لها وظيفة التّمائم التي تُضحِكُ الأرواحَ الشِّرِّيرةَ وتُبطِلَ أذاهَا. وعرَضَ الكاتِب في كتابِه (ص 95) صورةً لقناعٍ من هذه الأقنعةِ الضَّاحِكة، وكتبَ تحتَها: "قناع بُونِيّ يُستَعمَلُ لِاِرتِباطِهِ باِعتِقادٍ دِينِيٍّ لِإضحاكِ الأرواحِ الشِّرِّيرَةِ حتَّى لا تُؤذِيَ المَيِّتَ".
في الحقيقة لقد اِجتهد أجدادُنا البونيّون واللّوبيّون منذ آلافِ السِّنين لكيْ يُبعِدُوا عنهم كلَّ أنواعِ الشَّرّ والأرواحِ الفاسِدة، وذلك باِستخدام الضّحك والكوميديا والفرح والانشراح. والحِكمةُ تقتضي النَّسجَ على منوال الآباء والأجداد. فالرّسم والمسرح والموسيقى والسينما، إنما هي أدواتُنا اليومَ لطردِ الأرواحِ الشّرّيرة. والأرواحُ الشِّرِّيرةُ في قليبية اليوم نوعانِ:
-         أولئك الذين يرفضون المسرحَ وسائرَ الفنون ويُشوِّهونَ الفنّانين ويدعون النّاسَ إلى مُقاطَعتِهم. (ولا يُحرِّكونَ ساكِنًا أمام التّلوّث والبناء الفوضويّ برًّا وبحرًا وجَوًّا لأنّ ذلك لا يُهدِّدُ مُقدَّسَاتِهِمْ).
-         أولئكَ المُكلَّفُونَ بحماية التُّراث ولكنّهم لا يحمونَهُ، بل يترُكونَه للإهمال واللاّمبالاة.
وخِتامًا فإنّ الأرواحَ الشّرّيرةَ بجميعِ أنواعِها وأشكالِها لا تُحبُّ "صُعودَ الجِبالِ" والأبراجِ، بل تَعشَقُ "العيشَ بين الحُفرْ" والتَّطفُّلَ على الأمواتِ في قُبُورِهم الضَّاحِكةِ.
مزار بن حسن
(*)p 230- 231. Voyage archéologique dans la régence de Tunis, Paris 1862

أزمة في التّطهير أمْ شللٌ في التّفكير؟

بين قليبية وحمّام الأغزاز:

أزمة في التّطهير أمْ شللٌ في التّفكير؟


في يوم الثّلاثاء 11 جويلية 2017 فوجئ المصطافون في شاطئ الزّهرة التّابع للمنطقة البلديّة بحمّام الأغزاز بالسّيّد الوالي "منوّر الورتاني" يتفقّد حالة الشّاطئ والانتصاب الفوضويّ لِـ "البرّاكات" والواقيات الشّمسيّة، وقد وعد بتطبيق القانون وردع المخالفين. هذه النّقطة التي تعرّض إليها السّيّد الوالي قد طُرحت على مكاتب السّادة ولاة نابل قبل الانتخابات البلديّة وبعدها، لكنّها بقيت للأسف تنتظر التّطبيق والإنجاز. وما أُنجزَ منها لا يكاد يسدُّ رمقَ المُنتظرين، ممّا جعل المواطنَ يفقد الثّقةَ بالسّلطة محلّيّا وجهويّا ووطنيّا. والسّبب الرّئيسيّ خلف كلِّ هذا هو غياب رُؤية واضحة ومدروسة لمستقبل التّنمية في قليبية وحمّام الأغزاز خاصّةً، وفي جميع مدن الشريط السّاحليّ للوطن القبليّ عامّةً.

في يوم الاثنين 10 جوان الماضي نشرت صفحة حمّام الأغزاز على الفيسبوك مقطعَ فيديو يظهر فيه الفنّان والنّاشط الثّقافيّ "نوريّ حمّادة" على نفس الشاطئ (الزّهرة)، وتظهرُ خلفهُ مجموعة من المباني الشّاهقة التي تُطِلُّ على البحر من خلالِ ما تبقّى من أشجار "الكالاتوس" و"الأكاسيا" الهرِمة. ويتساءلُ "النّوريّ" الذي عاد إلى هذا المكان بعد عهدٍ طويلٍ من فراقِهِ: "متى شُيِّدت هذه المنازلُ والبناءات وقد عَهِدتُ المكانَ بِكرًا Vierge لا يعرفُه إلا قلّةٌ قليلةٌ من النّاس؟" كما تساءلَ أيضا بروحٍ مليئةٍ بالظّرف والدُّعابة: "إذا كانت هذه المنطقة غيرَ مُهيَّأةٍ عمرانيًّا، وغيرَ مرتبطةٍ بشبكة التّطهير، فأين تذهبُ الفضلاتُ البشريّة لكُلِّ هذه المساكن؟".
قبل الإجابة عن تساؤلاتِ "النّوري"، وخاصّةً السّؤال الأخير، يجب أوّلا أن نُجيبَ عن التّساؤلات التّالية: أين تذهب المياه المستعملة التي تمرُّ عبر شبكات التّطهير الرّسميّة في حمّام الأغزاز؟ الجواب: يتمّ تجميع كل تلك المياه في محطّة الضّخّ الموجودة على ضفاف سبخة حمّام الأغزاز، حيث تُضخّ بدورها إلى محطّة التّطهير الكبرى بقليبية. لكنّ آلةَ الضّخّ هذه قديمة ومتآكلة وضعيفة، فبمجرّد اِرتفاع ضغط المياه عند نزول الأمطار، أو في فصل الصيف عندما تكون البلدة مليئة بالزوّار والمصطافين، فإنّ هذه الآلة المريضة تتوقّف عن العمل فيتحوّل مصير المياه إلى السّبخة وإلى المزارع الفلاحيّة في "بوقسيلة" و"أمّ حصان" وغيرها، فتنتشر أوّلا الرّوائح الكريهة، وتتولَّى أسرابُ البعوض و"الوشواشة" مُهمَّتَها ثانيا في نقلِ تلك المياه إلى أجسادِ السّكّان والزّوّار ودمائِهم. وثالثا تشرب الخضر والغلال في تلك المزارع ما لذّ لها وطابَ من مياه التّطهير لِيأكُلَها السُّكّانُ والزُّوّارُ أيضا في ما بعدُ هنيئا مريئا.
الأمرُ ذاتُه يتكرّر مع مضخّة التّطهير بـ "وادي الحجر" بمدخل قليبية، وهي التي تصبّ في الوادي مباشرةً، والوادي بدوره لا يبعد عن شاطئ "القرنز" أكثرَ من ثلاثمائة متر، وبهذه الطريقة يتولّى الوادي مُهمّةَ إرسالِ المياه المستعمَلة إلى البحر، حيث تختلط مياهُ التّطهير بمياه بقايا المصانع والمعامل التي تُصرَفُ في الأودية الأخرى المُجاوِرة، وتُشكِّلُ خلطةً سحريّة من المواد والعقاقير والرّوائح التي يستمتع بها السّكّانُ والزُّوّارُ المُستحِمُّون هناك في جوٍّ بهيجٍ ومُنعِشٍ !!
الأمر ذاتُه أيضا مع مضخّة التّطهير التي تصبّ مباشرةً بسبخة قليبية، وبالتّحديد في الموقع الذي يتوسّط بين المكتبة العموميّة وبين "مدينة الألعاب أو المناج". فإذا هبّت الرّياحُ الشّرقيّة يتنعّمُ رُوّادُ المكتبة وعُشّاقُ المطالعة بالرّوائح العجيبة التي تدغدغ أنوفهم لتزيدَهم تركيزًا وإقبالا على القراءة والتّمعّن في الكتب. أمّا إذا هبّت الرّياحُ من ناحية الغرب، فإنّ الأطفال المُقبلين على اللّهو واللّعب بكلِّ ما أوتوا مِن قُوّةٍ يتنشّقونَ تلك الرّوائحَ وهم يلعبون ويمرحون. ولا يجب أن ننسَى بعد كلِّ هذا أنّ الشّارعَ الذي توجد به هذه المحطّة التّطهيريّة يُطلق عليه اسم: "شارع البيئة"، فيا لَها من بيئةٍ !
نعود الآن إلى سؤال "النّوريّ": "ما هو مصيرُ المياه المستعملة التي تخرج من مساكن شاطئ الزّهرة؟"
الإجابة: هو نفس مصير المياه المستعملة في قليبية وحمّام الأغزاز، كلاهما يذهب إلى البحر، مع فارقٍ بسيط، وهو أنّ مياه الزّهرة تذهب مباشرة إلى البحر، أمّا المياه الأخرى فتذهب إليه بعد أن تمرَّ بشبكة ديوان التّطهير.
سألنا أهلَ الذّكر في ما يتعلّق بآلات الضّخّ والحلول الممكنة لتجنّب خطر المياه المستعملة على المواطنين، فكان جوابُهم أنّ شراءَ آلةٍ جديدة مرهون بتوفير مبلغ ماليّ لا يتجاوز المائة ألف دينار إلا بقليل، وهو ما يعادل تقريبا ثمنَ سيارتيْن إداريّتيْن من جملة عشرات آلاف السّيّارات التي تملأ طرقاتِ الدّولة. إذن فالمشكلة ليست مادّيّة بقدر ما هي مشكلة في التّدبير وشلل في التّفكير.
نشرت بلديّة قليبية في صفحتها الرّسميّة بالفيسبوك يوم الثّلاثاء الماضي (16 جويلية 2019) خبرا مفادُه أنّها نفّذت حملة نظافة بالجرّافات في سبخة قليبية من أجل القضاء على ما سمّته "مخافر" النّاموس، وذكرت في ما ذكرت أنّها اِقتلعت نبتة "الحماضة" مُعتبرةً إيّاها من جملة الشّوائب والأوساخ التي يجب إزالتُها !!
لا نحتاج إلى التّذكير أنّ نباتات "الحماضة" و"السّمار" وغيرها، تُعتبَر من النّباتات الأساسيّة المُكوِّنة للنّظام البيئيّ للسّباخ التّونسيّة والمتوسّطيّة المحاذية للبحر، فهي نباتات مقاوِمة للملوحة، وتشكّل مرعًى خصبا للمواشي وغيرها من الثّروات الحيوانيّة المكوِّنة لهذا النّظام، وقد ظلّت تؤدّي وظيفتَها الطّبيعيّة هكذا منذ ملايين السّنين إلى أن جاءت بلديّة قليبية وقرّرت فجأةً اِقتلاعَها بالجرّافات مُعتبِرةً إيّاها مصدرَ قلقٍ وإزعاجٍ ومجلبةً للأوساخ والحشرات !!، أمّا مياه الصّرف الصّحّي التي يسكبها ديوان التّطهير والنّفايات المنزليّة المتراكمة والبناء الفوضويّ والتّحوّز العشوائيّ للملك العموميّ وغلق منافذ السّبخة إلى البحر، وغيرها من الكوارث البيئيّة، لم تعُدْ ترقَى إلى درجة الخُطورة التي تُشكِّلُها نباتات مثل "الحماضة" التي تحوّلت فجأة إلى متَّهمٍ رئيسيّ في قضيّة النّاموس وغيرها من قضايا التّلوّث، فأقلقتْ راحةَ بلديّة قليبية وأقضّتْ مَضاجِعَ مسؤولِيها والقائمين على صفحتِها بالفيسبوك، لذلك تجنّد الجميعُ من أجل القضاءِ عليها بالمال والعتاد والجرّافات...
إنّ خطابًا سياسيّا مثل هذا الخطاب الذي صدرَ عن بلديّة قليبية يدُلّ من غير شكٍّ على أمريْن:
- أنّ المسألةَ البيئيّةَ لدى نُخبِنا ومسؤولينَا وحُكّامِنا غيرُ مُتمكِّنةٍ من عقولِهم وغيرُ حاضرةٍ في مشاغلِهم واِهتِماماتِهم، وإنْ حَضَرت فهي لا تتعدّى مجرّدَ ردودِ أفعالٍ وقتيّة لإطفاء غضب المواطن وكسب رضا النّاخب.
- أنّ الأزمة التي يعاني منها مسؤولونا هي أزمة وعي وتفكير وتدبير قبل أيّ شيء آخرَ.
مزار بن حسن

31 déc. 2018

قراءة في كتاب: "محطّات في مَسارِ الأيّام" لِمُحمّد بن اِمحمّد البلاجي:

قراءة في كتاب: "محطّات في مَسارِ الأيّام" لِمُحمّد بن اِمحمّد البلاجي:

سيرة صانِعِ السّيوف والدُّروع

مزار بن حسن

كلّما أوغلَ الكاتِبُ صاحبُ السِّيرةِ في تأمُّلِ ذكرياتِه الماضيةِ، أحسَّ بالسّعادةِ تغمُرُ قلبَهُ، ودَبَّ فيه السُّرورُ والانشِراحُ. وكيف لا يُسَرُّ إذا كان اللهُ قد أنعمَ عليه دونَ سائر خَلقِهِ وجعلَهُ يولَدُ ويترعرعُ في "منطقةٍ مِن أجملِ ما خَلقَ وأبدَعَ (...) يَلُفُّ البحرُ جهاتها الثّلاثَ، فيُعدِّل مناخَها ويُلطِّفُ من طباعِ أهلِها؟". تلك هي "قليبية" كما يصفُها الكاتبُ، حقولٌ ومزارعُ تجري من تحتِها مياهٌ تسكُبُها الدِّلاءُ في السّواقي صافيةً مُتلألِئةً. وتنبعثُ من تُرابِها الذي تقلبُه المحاريثُ روائِحُ نديَّةٌ عطِرةٌ، فتُنبِتُ "الدّرع" و"القطانية" و"الدّخان" و"الدّلاّع" و"الهندي" و"الكرموس"... وتختلط بروائح ملح البحر و"السّمك المقليّ والبطاطا المُحمّرة والسّلاطة المشويّة" (1).
الجنّةُ المنيعة:
كلُّ عناصرِ الطّبيعة في تلك الرُّبوعِ تتّحِدُ لِتزْهُوَ كما لا تتّحدُ في أيِّ مكانٍ آخرَ. حتّى العصافيرُ هناكَ ليست كغيرِها، فهي إذْ تطيرُ وتشدُو، "تملأ الجوَّ عبثًا وحُبُورًا، مُنتقلةً بين أشجارِ الإجّاصِ وخمائلِ "الدِّفلة" و"نوّار العشيّة". وما كانتْ لتكونَ كذلك لولا إحساسُها بالأمانِ والمَنَعةِ ويقِينُها التّامُّ أنّها في جِنانِ الخُلدِ المُطلقِ، بل إنّ "الجنّةَ الموعودةَ" كما يزعُمُ الكاتبُ "لا تختلف في شيء عن جنّته التي قضى فيها طفولتَه واِستمتعَ بها في طمأنينةٍ ودَعَةٍ".
إنَّ الإحساسَ بالجنّةِ المنيعة والحصينةِ في الوطن القبليّ عامّةً، وفي قليبية خاصّةً، ليسَ بدعةً من بِدعِ صاحبِ السّيرةِ أو اِدِّعاءً من اِدِّعاءاتِه، بل هو ضارِبٌ بجُذُورهِ في عُمقِ التّاريخ واللّغة. أليست التّسمية القديمة لمدينة "قليبية" هي "Aspis" الكلمة اليونانيّة التي تحمل معنى "المِجَنّ" أو "التُّرْسُ" أو الدِّرع؟ والمِجَنُّ والجَنَّةُ يشتركانِ في جذرٍ واحدٍ (ج/ن/ن)، والفعلُ جَنَّ معناهُ: أخفى وسترَ ووَقَى. والجُنَّةُ، كما في لسان العرب، الدِّرْعُ، وكُلُّ ما وَقاكَ. أمّا الجَنَّةُ فيقولُ فيها ابنُ منظورٍ: "هي دارُ النَّعيمِ في الدَّارِ الآخرة، مِنَ الاِجتنانِ، وهو السِّتْرُ، لِتكاثُفِ أشجارِهَا وتَظلِيلِها باِلتفافِ أغصانِها".
زِدْ على ذلك ما نقلهُ الكاتبُ عن المؤرّخ "ديودور الصّقلّيّ" سنة 90 ق- م الذي وصفَ ما شاهده في طريقهِ من قليبية إلى قرطاجَ قائلا: "أجنّة ذات أشجار مثمرة تشقّها السّواقي تنقل مياهَ العيون الصّافية (...) وأمّا المخازنُ فكانت تفيضُ بالخيراتِ من حبوبٍ وزيوتٍ وبقولٍ وخمورٍ... وفي السّهول كنتَ ترى قطعانَ الغنمِ والبقرِ ترعى في طمأنينة..." ويُضيف المؤرّخ أنّه لولا حالةُ السّلم الطّويلة التي عاش فيها السّكّانُ، ولولا إحساسُهم بالطّمأنينة والاِستقرار لَما اِستطاعوا تحصيلَ كلِّ تلك الخيراتِ (2).
وليس من بابِ الصّدفةِ أيضا أن يُطلِقَ "سي محمّد البلاجي على نفسه اسمَ "محرز" في الرّواية، فقد اِختارَ عمُّه مصطفى هذا الاسمَ حسب قولِه، تبرُّكًا بالوليّ الصّالح سيدي محرز بن خلف سلطان المدينة وحارِسُ حاضرةِ تونسَ. والحِرزُ في اللّغةِ هو الحِصْنُ والدِّرعُ. مع ما نعرفُهُ عن هذه الشّخصيّةِ مِنْ شدّةٍ وصَرامةٍ وبأسٍ في وجهِ الامتدادِ الشِّيعيِّ الفاطميِّ الآتي من الشّرق.
الخطيئة والطّرد:
أمّا لقبُهُ (البلاجي) فهي كلمةٌ تركيّة تعني مِهنةَ صانعِ السُّيوف، لأنّ "البالة" باللّغة التّركيّة هي السّيف الكبير، ولأنّ جدَّه الأوّلَ كانَ حدّادًا، وقد وفد إلى قليبية قادما من "أدرنة" من الأناضول ضمن عسكر الأتراك لِيصنعَ السّيوفَ للجنود. لكِنْ هل يستقيمُ صُنعُ السُّيوفِ في الجنّة؟
يذكُرُ الكاتِبُ حكايتيْن مُنفصلتيْن: الأولى هي حادثةُ الطّرد، طرد الأب (جدّ السّارد) لابنِه (أبو السّارد). والثّانية هي تقدير العائلة للعلم منذ القديم. أمّا الأولى فقد بقيت غامضةً، حيث لم يذكرْ الكاتبُ سببَ طردِ جدِّهِ لأبيه بوضوحٍ، واِكتفى بالقولِ إنّه سألَ أمَّه يوما ما عن سرّ وجودِ منزلهم القديم في ذلك المكان النّائي عن البلدة، فأجابته بأنّه "قد تخطّى التّراتيبَ وأرادَ كسرَ القوانين، فأطردَه أبوه من الدّكّان الذي كان يرتزق منه ومن الغرفة التي كانت تأويه"، وهو ما فعله أيضا مع اِبنهِ الثّاني (عمّ السّارد) ممّا جعلَ الأبَ ينتقلُ إلى "علية الشّوارف" ليُؤسّسَ مملكتَه المستقلّةَ حيثُ فتحت المدرسة العصريّةُ أبوابَها لاستقبالِ "البلاجي الحفيد" (أي الكاتب). إنّ "كسرَ القوانين" هو تعبير آخرُ عن خطيئةٍ ما اِرتكبها الأب فاِستحقَّ غضبَ أبيه وسُخطَه عليه وطردَه من "جنّتِه"، تماما كما طرد الله آدمَ وحوّاءَ من الجنّة بعد أن أكلا من ثمارِ الشّجرةِ المُحرَّمة (شجرة المعرفة)، فكتبَ على ذرّيّتِهما شقاءً أبديًّا.
الحكاية الثّانية هي ما ذكره الكاتبُ من تقليد موروثٍ عن الأجداد، وهو اِحترامُ العلم والعلماء، فقد كان "الحاج حسن البلاجي"، وهو أحد أسلاف العائلة يُنفِقُ جميعَ مكاسبهِ من أجل أن يتنقّلَ أبناؤُه إلى تونسَ ويُباشِرُوا تعلُّمَهم بجامع الزّيتونة. وبذلك نتبيّنُ من الحكايتيْن سِرًّا دفينًا وحِكمةً عظيمةً تتوارثُها عائلة البلاجي وتتناقلُها جيلا بعد جيلٍ إلى أن وصلتْ إلى صاحبِ السّيرة، ويُمكن أن نُلخِّصَها بما يلي:
إنّ البقاءَ في نعيمِ الجنّةِ والتّنعُّمَ بهناءِ العيش تحت ظلالِها مشروطٌ بعدم تذوّقِ شجرة المعرفة، فإذا عنَّ لك أن تتذوَّقَها، عليك بدفع الضّريبة، وهي الطّرد والتّيه والشّقاء. إنّ وظيفةَ البلاجي صانع السّيوف هي أن يصنعَ لابنِهِ سيفًا ودِرعًا، ثمّ يُطالِبُه بالحركة والاِرتحالِ، فيزجُّ به في معتركِ الحياةِ مُنازِلا ومُحارِبًا، ويقولُ له: "فلتصنعْ جنَّتَكَ بكدِّ يمينِكَ وعرقِ جبينِكَ وحُسنِ تدبيرِكَ، ولا مكانَ لك في جنّةِ أبيكَ".
لقد عبّرَ الجاحِظُ عن هذه الفلسفةِ في "رسالة الأوطانِ والبلدانِ" قائلا: "إنّ طولَ المُقامِ مِن أسبابِ الفقرِ، كما أنّ الحركةَ مِن أسبابِ اليُسْرِ (...) وإنّ اللهَ قسَمَ المصالِحَ بينَ المُقامِ والظَّعْنِ، وبين الغُربةِ وإلْفِ الوطنِ، وبينَ ما هو أربَحُ وأرفعُ، حينَ جعلَ مَجارِيَ الأرزاقِ مع الحركةِ والطَّلَبِ. وأكثرُ ذلك ما كانَ مع طولِ الاِغترابِ والبُعدِ في المسافةِ، لِيُفيدَكَ الأمورَ، فيمكن الاِختبارُ ويحسُن الاِختيارُ".
"هيفايستوس وأثينا": الحديد والحرب والحكمة:
في غمرةِ "الحركة والطّلبِ والاِغتراب" التي تحدّث عنها الجاحظُ، وفي إطارِ الخطيئة المُتوارَثةِ في العائلةِ، واللّعنةِ المُتكرِّرةِ جيلا بعد جيلٍ، شملت رحلةُ "البلاجي الحفيد" خارج قليبية محطّاتٍ هامّةً، وفي كلِّ محطَّةٍ تطَأ قدَمُه أرضًا وَعرَةً، بل مُتحرِّكةً ومُتصدِّعةً. وهي الصّورةُ التي عبّرَ عنها "محرز" صراحةً عند نزولِهِ "جيبوتي" التي سمّاها: "بلاد الأدغال والأهوال"، في إطارِ بعثةٍ تعليميّةٍ للتّعاون الفنّيّ، فقد وجد هناك أرضًا بركانيّةً واقعةً في ملتقى الصّفائح التّكتونيّة، وكلّما تحرّكت تلك الصّفائحُ هاجت البراكينُ وتزلزلت الأرضُ. ومثلما تلتقي الصّفائحُ تحت تلك الأرضِ، تلتقي فوقها أيضا قبيلتانِ متصارِعتان: "العفر والعيسَى". أمّا الأولى فهي إيريتريّة تسكن شمالَ البلاد، وهي مُهادنةٌ للعرب. وأمّا الثّانية فصُوماليّة تسكن العاصمة والجنوب، وهي مُناوئة للعرب لأنّهم يعتبرونهم غُزاةً. وكأنّ قدرَ محرز في كلِّ أرضٍ يحُلُّ بها، أن يعودَ إلى مِهنةِ آبائه وأجدادِهِ، فيُذيبَ المعادِنَ ويصهرَ الحديدَ في الحديدِ لِيُخفِّفَ حدّةَ التّوتّر والاحتكاك بين الصّفائح الجيولوجيّة والقبَليّة، وليُخمدَ ثورةَ البراكين والزّلازل ونزاعاتِ القبائلِ والشّعوب. وقد فعلَ مثلَ ذلك عندما كانَ طالبًا في الجامعة، "عميلا مُزدوجا" على حدّ تعبيره، ومُوفِّقًا بين اليمين واليسار في تسيير الأنشطة الثّقافيّة، أو بين نزاعاتِ "ماجر" و"الفراشيش" عندما أصبح في ما بعدُ مُديرًا للمعهد الثّانويّ بتالة.
تُحدّثنا الأسطورة اليونانيّة عن "هيفايستوس Héphaïstos" إله الحديد والمعادن عند الإغريق. وقد اِنتصر لأمِّه "هيرا" إثر خلافٍ جدَّ يومًا بينها وبين أبيه "زيوس" كبير الآلهة. فما كان من "زيوس" إلاّ أن عاقبَه على ذلك، فدفعَه من أعلى جبل "أولمب"، ودامَ سُقوطُه يومًا كاملا حتّى تشوّهت خِلقتُه. ثمّ وجد "هيفايستوس" نفسَه في جزيرة "ليمنوس" بالقرب من بركان "موزيكلوس Mosychlos" حيثُ تعلّمَ صهرَ المعادن وصنعَ الآلات الحديديّة باستخدام النّار والحمم البركانيّة.
وتضيف الأسطورةُ أيضا أنّ الإله "أورانوس" حذّر "زيوس" يوما من أنّ أحدَ أبنائه من زوجته "ميتيس" سيفتكّ منه عرشَه، فذهب إليها وهي حامِلٌ فاِبتلعها. وبعد أشهرٍ أحسَّ بآلامٍ حادّةٍ في رأسِه، فطلبَ من ابنهِ "هيفايستوس" أن يفتحَ له جمجمتَه بفأسٍ، ففعل، فخرجت منها ابنتُه "أثينا" آلهة الحرب والحكمة والذّكاء (4).
لعلّ سيرةَ "البلاجيّ" هي إعادةٌ مُلطَّفةٌ لسيرة "هيفايستوس" الإله المُغترِب والمطرود مِن الجنّة إلى الجحيم (البركان)، صاحب السّيوف والدّروع وسائِرِ الآلاتِ الحديدِيّة التي لا يمكن صُنعُها في جنّةِ الأب، صاهِر الحديد بالحديد، لما فيه من "بأسٍ شديدٍ ومنافعَ للنّاسِ" (5)، ولِما في صَهرِه من براعةٍ وحكمةٍ ومُجاهدَةٍ ومُصابرةٍ.

(1) محمد بن امحمد البلاجي، محطّات في مسار الأيّام، دار زينب للنّشر، ط1، 2018.
(2) جلول عزونة، صفحة مجهولة من تاريخ ماسينيسا بالوطن القبليّ، ضمن كتاب "دراسات حضاريّة عن تونس" دار الإتحاف للنّشر، تونس دون تاريخ، ص 7.
(3) رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السّلام محمّد هارون، بيروت، دار الجيل، 1991، مج 2، ج 4، ص109، 112.
(4) ويكيبيديا الفرنسيّة: مادّة: Héphaïstos.
(5) سورة الحديد (58)، الآية: 25.


9 nov. 2018

معنى الحياة في حمّام الأغزاز


معنى الحياة في حمّام الأغزاز




في تسعينيّات القرن الماضي، أرادَ أحَدُ كبارِ التُّجّارِ ورِجالِ الأعمالِ التّونسيّينَ المُقيمينَ

بتونسَ العاصمة تَمْضِيةَ فصلِ الصّيفِ في إحْدَى قُرَى الوطنِ القبليِّ التّونسيّ، فذهبَ إلى أحَدِ مُوَظَّفيه المُستَخدَمِينَ عنده في شركتِه التّجاريّة، وقدْ كانَ يعرِفُه غُزّيًّا (من حمّام الأغزاز)، إذْ كانَ في كلِّ سنةٍ يأتيه بِـ»عُولَتِه» مِن «الفلفل المرحيّ» و»الدّرع» (Sorgho) من هناك، فسأله عن قريةٍ ساحِليّةٍ هادِئةٍ بعيدةٍ عنِ التّلوّث بكافّةِ أشكالِه الهوائيّة والبصريّة والسّمعيّة، فقال له: لِمَ لا تستأجِرُ منزلا بحمّام الأغزاز؟ فهي المكانُ الذي ستَجِد فيه حتْما ضالَّتَكَ. بعد مُفاهمةٍ، استقرَّ الرّأيُ على منزِلٍ بحمّام الأغزاز يتوسّطُ الحُقولَ ويُشرِفُ على البحر من الشّرق وعلى المناطق الزّراعيّة الخضراء من الغرب.

قال الغُزّيّ- والعُهدَةُ عليه-: في اللّيلة الأولى التي قضاها التّاجرُ هناك، وبينما كانت العائلةُ في نومٍ عميقٍ، فجْأةً استيْقظ الجميعُ هَلِعِينَ على صَوتٍ صارخٍ كأنّه صاعِقةٌ مِنَ السّماء، لم يفهموا شيئا في البداية. حتّى كلْبُهم فوجِئَ بانطلاق الصّعقةِ المُدَوِّيّةِ، فدخلَ في حالةٍ نُباحٍ هستيريّةٍ. لكنّهم سرعانَ ما عرفوا أنّه صوتُ نهيقِ حِمارٍ كانَ مُوثَقًا بِحبْلٍ إلى سورِ المنزلِ، وبين السّورِ والشّبّاك الخلفيّ للمنزل مسافةٌ قصيرةٌ جِدّا. لعلَّ صاحِبَهُ أهملَهُ وتَرَكَهُ هناكَ للجوعِ والعطشِ وصقيعِ اللّيلِ، بعد يومٍ كامِلٍ منَ الأشغالِ الفلاحيّةِ الشّاقّةِ.

ثمّ إنَّ كلبَهم لمّا جعل ينبحُ ويَعوِي مِن شِدَّةِ الذُّعْر، أحدثَ بَلْبَلَةً وضجيجًا في المنازلِ والحقولِ المُجاوِرة، فجاوبَتْهُ الكِلابُ الأخرى بنبيحِها وعُوائِها أيضًا. تمامًا كما جاوبتْ الأحمِرةُ غيرُ البعيدةِ عن المكانِ أخاها الحمارَ كأنّها تُعبِّرُ عن تضامُنِها ومُساندَتِها. وهكذا باتُوا ليلَتَهم بين نُباحٍ ونَهِيقٍ وغيرِ ذلك من صياحِ الدِّيكةِ وأصواتٍ أخرى لمْ يَتوَصَّلُوا إلى معرِفتِها. ولَمْ يَذُوقٌوا للنَّومِ طَعْمًا.

مع انبلاجِ الخيوطِ الأولى مِنَ الصّباحِ، كانَ كلُّ شيءٍ قد خَمَدَ وسَكَنَ. وظنَّ التّاجِرُ وعائلتُه أنّها فُرصَتُهُمْ الآنَ للنّومِ بعد ليلةٍ مِنَ المعاركِ والمُواجهات. لكنْ هيهاتَ !...

الفزَّاعة الصَّامِدة:

قَرْعٌ على الحديدِ والصّفيح وصياحُ أطفالٍ وتصفيرٌ دون انقطاعٍ. صِبْيةٌ يصرُخونَ ويصيحونَ وأعْيُنُهم في السّماء: «حاح حاح... !» وكُلُّ واحِدٍ منهُم ماسِكٌ بيدِه اليُسْرَى «قصدريّةً» فارغةً أو «طاسةً» كبيرة ينهالُ عليها ضرْبا بِعَصًا في يدِه اليُمْنَى فتُحدِثُ أصواتًا مُنفِّرَةً. كما رأى مجموعةً من بقايا عُلب «البيرة» و»القازوز» وما شابهها مِن الأوعية القديمة قدْ شُكَّتْ في خيطٍ طويلٍ مُرْسَلٍ فوقَ رُؤوسِ الزّرْعِ حتّى صارتْ كالقِلادَةِ، ثمّ أمسكَ أحَدُ هؤلاء الصِّبيةِ الخيطَ مِنْ طَرفِهِ فجَعلَ يَرُجُّه ويُحرِّكُه في كلّ اتّجاهٍ ليُحدِثَ صليلاً وجلجلةً وَ»شكْشكَةً» تَصُمُّ الآذانَ. ثمَّ لمَحَ من بعيدٍ هيأةَ إنسانٍ مُعلَّقٍ فوقَ السّنابِلِ يلبَسُ لباسًا رَثًّا مُمَزَّقًا، وفهِمَ حينَئِذٍ أنّها فزَّاعَةٌ اتّخذَها هؤلاءِ لطَرْدِ الطّيور، وأنَّ جميعَ ما سمِعَه مِنْ أصواتٍ حادَّةٍ وجميعَ ما رآهُ في الحُقولِ مِنْ أدواتٍ للتّطبيلِ والتّزميرِ وفُنونِ الضّوضاءِ والضّجيجِ، إنّما هو في سياقِ عمليَّةِ إخافةِ تلك الطّيورِ ومَنْعِها مِنَ الاقترابِ مِنَ المَحصولِ والأكلِ مِنهُ، وتُسمَّى هذه العمليّة بِــ»التّحاحيّة»، وتدومُ يومًا كامِلاً مِن طُلوعِ الشّمسِ إلى غُروبِها. لمْ يَعْرِفْ في البدايَةِ ما نَوْعُ الزّرعِ الذي يُقبِلُ عليهِ الطّيْرُ بنَهمٍ شديدٍ، لكنَّه عندما سألَ عنهُ قيلَ له إنّه «الدّرُعْ» (Sorgho). ذاكَ الطّعامُ الشّهيُّ الذي يُقْبِلُ عليهِ هو الآخَرُ بنَهمٍ شديدٍ ويأخُذُ مِنه كلَّ سنةٍ «عُولَتَه» عن طريقِ ذلك الغُزّيّ الذي يشتغِلُ عندَهُ في شرِكتِه.

قال الغُزِّيّ أيضا: إنَّ هذا التّاجِرَ لمْ يُكْمِلْ يومَه ذاكَ في حمّام الأغزاز، بل جمَعَ زادَهُ وعُدّتَه التي كان قد أتى بها قبلَ يومٍ، وأقْسَمَ ألاّ يَبيتَ ليْلتَهُ تلكَ إلاّ في منزِلِهِ بتونِسَ. وبعدَ تلك الحادِثةِ ظلَّ يُحدّث النّاسَ عن حمّام الأغزاز ويقولُ إنّها البلدةُ التي يصيحُ أهلُها في النّهار وحيواناتُها في اللّيل !!

بعد سنواتٍ قليلةٍ جرتْ حكايةٌ ثانِيةٌ لا علاقةَ لها بالأولَى في البدايةِ. ففي صائفة سنة 2003، تعرّفتُ إلى «بيير»، أحدِ السّيّاح الكنديّين في تونسَ، وهو مُتخصِّص في الرّعاية النّفسيّة للأطفال المرْضَى في أحدِ مستشفياتِ «مونريال» (Montréal)، وبصددِ إتمامِ رسالةِ بحثِه في الدّراساتِ المُعمَّقةِ حول علم نفس الفنّ، وقد أتى إلى تونسَ في بِعثةٍ مِن إدارة المستشفَى. وبعد سلسلةٍ من اللّقاءاتِ بيننا، اِكتريتُ له في حمّام الأغزاز المنزلَ نفسَه الذي اكتريْته سابقًا لبطل الحكاية الأولى، وتركتُه هناك لقضاءِ ليلتِه قبل أن نتلاقَى في الصّباح.

ما حدث لِـ «بيير» في ما بعد حسب روايتِه:

لم يَنَمْ «بيير» ليلتَها إلاّ ساعةً أو بعضَ ساعةٍ، فَما إن بدأ النّومُ يُغالِبُهُ في السّاعاتِ الأولى من الفجر حتّى انطلق القَرْعُ على القصدير والصّفيح وصياحُ الأطفال وتصفيرُهم، وصليلٌ وجلجلةٌ وَ»شكْشكَةٌ» لم يفهمْ مأتاها في البداية، لكنّه عندما أطلّ من الشّرفة ورأى الأطفالَ وأدواتِهم، ورأى الزّرعَ الذي لم يرَه ليلاً، فهمَ كلَّ شيْءٍ. لقد كان «بيير» على علمٍ سابقٍ بعمليّة «التّحاحيّة» لكن على الطّريقة الكنديّة، فقد اشتغل كما أفادني لاحِقًا أثناء دراسته الجامعيّة في جني محاصيل الفلاحة من طماطم وتفّاح وعنب وغيرها في الرّيف الكنديّ، وقد مكّنته هذه التّجارب من رُؤية زراعة «الدّرع» الذي يُسمّى في كندا الفرنكوفونيّة: Le millet perlé. كما رأى الطّرقَ الحديثة لتفزيع العصافير وهي الفزّاعة الالكترونيّة: épouvantail électronique أي تلك الآلة التي تعمل بالغاز الطّبيعيّ وتُحدث كلَّ مُدّة معلومة صوتَ انفجار كبير يفزّع العصافير الجائعة التي ترى في حبوب «الدّرع» أو الذّرة أو غيرها وجبةً شهيّةً، وبتلك العمليّة يتمّ تأمينُ «الصّابة» من التّلف والنّقصان بشكل ناجع.

نزل «بيير» إلى الحقل وتعرّف إلى الأطفال المُشرفين على تأمين الصّابة بصياحهم وتطبيلِهم، ووجدَ أنّهم تلاميذ تُوكَلُ إليهم هذه المهمّةُ أثناء العطلة الصّيفيّة، ويتقاضَوْنَ في مقابلِ عملِهم هذا أجرًا معلومًا يُعينهم على تغطية تكاليف العودة المدرسيّة. اِلتقط معهم صورا فوتوغرافيّةً، فرديّةً وجماعيّة، وأعطاهم الحلوى والشّكلاطة وبعضَ الهدايا التّذكاريّة، وصاح و»شكشك» مثلهم. قال لي «بيير»: إنّ هذا الذي عشتُه مع الأطفال في أوّلِ يومٍ نزلتُ فيه بحمّام الأغزاز هو الحياة الحقيقيّة التي لم أعُدْ أراها في كندا. إنّ النّاسَ في «مونريال» فقدوا معنى الحياة منذ زمنٍ بعيدٍ. والطّفلُ الذي رأيتُه اليومَ في حقل «الدّرع» قادِرٌ على إدراكِ معنى وجودِه بحكمةٍ لم يعُدْ يبلُغُها الإنسانُ الأمريكيّ أو الأوروبّيّ اليومَ.

صراع الفلاّح والسّمسار:

رحل «بيير» بعد ذلك. قفل راجعا إلى بلدِه، واِنقطع ما كان موصولا بيننا، إذ لم أجد عنوانَه الالكترونيّ الذي سجّلتُه في مكانٍ ما ثمّ أضعتُه. وعندما ظهر الفيسبوك في ما بعد بحثت عنه أيّاما وليالِيَ مُتّبِعًا كلَّ أنواع البحث الالكترونيّ الممكنة. بحثت عنه أيضا في «جوجل» و»تويتر» وغيرهما فلم أظفرْ بطائِلٍ. بحثتُ عنه لِأُخبِرَهُ بأنّ الأطفالَ الذين أُعجِبَ بهم تعبوا الآنَ من الصّراخِ والتّصفير، وأنّهم لم ينجحوا في مسيرتهم الدّراسيّةِ التي صاحُوا من أجلِها في وجوه الطّير. بحثتُ عنه لِأُخبِرَهُ أنّ الصّياحَ وقرعَ القصدير ونحوِه قد اِنقطع من حمّام الأغزاز لِتُعوِّضَهُ الفزّاعاتُ الالكترونيّة المُفرقِعة التي يعرفها هو في كندا. بحثتُ عنه لِأخبِرَهُ أنّ مساحاتِ حقولِ «الدّرع» تتضاءلُ سنةً بعد أخرى لتترُكَ مكانَها شيئا فشيئا للمالكين الجُدد وللزّحف العمرانيّ والفيلات والعمارات التي يبتنيها النّاسُ لكرائِها للمصطافين المجانين بالبحر، والتي تكسبُ كلَّ مرَّةٍ معركةً وتحتلُّ أرضًا جديدةً. بحثتُ عنه لِأخبِرَه أنّ الفلاّحَ تحوّلَ إلى وسيطٍ عقّاريّ (سَمسار)، وأنَّ العصافيرَ لم تعُدْ تُشكِّلُ خطرًا على «الدّرع»، وأنَّ الفزّاعاتِ الالكترونيّة لم تعُدْ تُفزِّعُ الطّيورَ بل صارت في هيأةِ المدافِع الحربيّة يُوجِّهُها بَقَايَا الفلاّحين نحو العدوّ الجديد كيْ تقصِفَ الاسمنتَ المُسلَّحَ و»الياجورَ» الأحمرَ في حربٍ دونكيشوتيّةٍ ماضِيَةٍ نحو الخسارة.

ما زلتُ أبحثُ عن «بيير» إلى اليوم لِأخبِرَهُ أنّ الحياةَ في حمّام الأغزاز تغيّرت. أصبحَ لديها مَعنًى آخرُ.

مزار بن حسن

https://ar.lemaghreb.tn/قضايا-وأراء/item/31884-مَعْنَى-الحياة-في-حمّام-الأغزاز