21 mars 2014

"مقتل اليهوديّ" بحمام الأغزاز

"مقتل اليهوديّ"





هي تسمية خاصة أطلقها الغُزّيّة لتحديد المكان الذي وقع فيه قتل أحد اليهود في حمام الأغزاز، وذلك يوم الأربعاء 21 مارس 1900. واليهوديّ المقتول هو التّاجر "نسيم بن إبراهيم كوهين النّابلي". فقد خرج في ذلك اليوم من محلِّ سكناه بقليبية راكبا حمارتَه وقاصِدا حمام الأغزاز كعادته لبيع الأقمشة وما شاكلها من السِّلع. وقد أذّن المَغرب ولم يرجِعْ مع أنّ من عادته الرّجوعَ قبل الغروب. وهو الأمر الذي حيّرَ زوجتَه "ستيرة بنت يوسف حدّاد النّابلي" فأرسلت في طلبِه زميلَه في التّجارة "حييم بن حوزي النّابلي" فذهب إلى حمام الأغزاز صحبة رجل آخر من قليبية. ولمّا وصلا إلى منتصف الطّريق قرب "حجرة السّاطور" في المحلّ المعروف بــ: "بْكِرْ" سمِعَا شخيرا فاتّجها نحوه فإذا بنسيم المذكور مطروح على ظهره فاقِدٌ لوعيه. فتركاه وأكملَا طريقَهما إلى حمام الأغزاز. فلمّا وصلا وجد النّاسَ خارجين من صلاة العشاء، فأخبراهم بما حصلَ فخرجوا معهما إلى محلّ الواقعة، ومن هناك أرسلوا إلى شيخ قليبية "الطّاهر بن أحمد النّجّار"، فأتى ومعه الجندرميّة. ثمّ بعد قدومهم بنحو نصف ساعةٍ فارق اليهوديّ الحياة. وعند معاينته وجدوا بمؤخّر رأسِه أثرَ ضربة بعمود غليظة، وعلى الأرضِ قليلا من الدّم، ولم يفقد من لباسِهِ إلّا حِذاءَه. كما وجدوا عصاه التي يضرب بها الدّابّةَ ممسوكة بين أصابع يده. أمّا الدّابّة فلم يجدوها هناك لشدّة الظّلام.
عند ذلك أمر شيخ قليبية بحمل القتيل إلى داره، حيث صرّحت زوجتُه بأنّ زوجها توجّه وقت زوال ذلك اليوم كعادتِه إلى حمام الأغزاز للتّجارة، وحمل معه 300 فرنك ليرهنَ بها حُليّا. كما ذكرت أنّ قيمة سلعتِه التي في خُرْجِه 1800 فرنك.
وفي صبيحة اليوم الموالي (الخميس 22 مارس 1900) تمّ العثور على الحمارة غير بعيدة عن محلّ الواقعة، كما تمّ العثور على الزّنبيل الذي كان به الخُرج وفيه مقصّ ونصف متر معدّ لكيل الأقمشة. ووجدوا أيضا أوراقا مكتوبة باللّغة العبرانيّة. عند ذلك وقعت الاستعانة بثلاثة خبراء في القيافة (تتبّع آثار الأقدام) وهم: "مُحمّد بن امْحمّد بن صالح عجاج" من حمام الأغزاز و"امْحمّد بن عبد القادر بن ملوكة المحمّديّ الدّبيبي" و"محمد بن عليّ بن حسن الحجريّ العِشّيّ" من الأجوار. فتبيّن من معاينتهم أنّ حمارة اليهوديّ قد ذهبت إلى "الأحواش" بقليبية ثمّ رجعت إلى حمّام الأغزاز عبر "هنشير أسِّمْر" وهي تحمل شيئا ثقيلا، وأثَرُ شخصيْن مُحاذِييْن لها (يمينا وشِمالا) كأنّهما ماسِكانِ شيئا عليها خوفا من سقوطِه. وقد تأكّد للسّلط آنئذ أنّ عمليّة القتل لم تكن وراءها خلفيّات سياسيّة أو طائفيّة بقدر ما كانت إجراميّةً بغاية السّرقة.
كان لهذه الحادثة صداها في الصّحافة الفرنسيّة. فقد كتبت صحيفة: "La dépêche tunisienne" على سبيل المثال مقالا عُنصريّا مُغرِضا يدعو إلى ترهيب النّاس ومعاقبتهم بأقسى العقوبات.
وبعد بحث طويل شمل أهالي حمام الأغزاز والأحواش خاصة، ودام حواليْ أربعة أشهرٍ انحصرت الشّبهة في خمسة أنفار: أربعة من حمام الأغزاز والخامس من "هنشير حاروري". ولم تثبت تُهمة القتل على أيّ أحد منهم، لذلك صدر الحكم من قسم الجنايات بالوزارة الكبرى بسراح جميعهم، وذلك يوم الاثنين 23 جويلية 1900.
وما زالت الذّاكرة الغُزّيّة إلى اليوم تُسمّي المكان الذي وقعت فيه هذه الحادثة: "مقتل اليهوديّ".
المصادر:
-      رسم حجّة للعدليْن: "قاسم بن الحاج صالح بن حمودة" و"أحمد بن رمضان" (دفتر العدل قاسم بن حمودة: 1899- 1901): الأرشيف الوطنيّ التّونسيّ.
-      دفاتر العدلية التّونسية: الأرشيف الوطنيّ التّونسيّ: ص1 م306.
-      La dépêche tunisienne: عدد: 3549: الاثنين 26 مارس 1900: ص3:http://gallica.bnf.fr/ark:/12148/bpt6k5799300/f3.image.r=La%20d%C3%A9p%C3%AAche%20tunisienne.langFR

مزار بن حسن

20 mars 2014

ذكرى وفاة الشّاعر: الحاج مُحمد حمّادة (1839- 1912)


ذكرى وفاة الشّاعر: الحاج مُحمد حمّادة (1839- 1912)

في مثل هذا اليوم، وبالتحديد في يوم الأربعاء 20 مارس 1912، (1 ربيع الثّاني 1330هـ)، تُوفّي شاعرُ حمّام الأغزاز وقَلبُها النّابِض: الحاج مُحمد حمّادة عن عُمرٍ ناهز ثلاثةً وسبعينَ عاما. والِدُه هو الحاج مُحمد (شُهِرَ "حمّادة"، ومنه انحدرت عائلة "حمّادة" في حمام الأغزاز) بن أحمد بن علي بن عبد الدّائم بن مُحمد غُزّيّ الطّرابلسيّ. وأُمُّه هي عائشة بنت الحاج مُحمد بن عيسى بن الحاج سالم بن عبد الدّائم بن مُحمد غُزّيّ الطّرابلسيّ.
وُلدَ مُحمد حمّادة حوالي سنة 1839 بحمام الأغزاز، وبها نشأ وترعرع. عُرف منذ صغر سنّه بذكائه الوقّاد ونبوغه المبكّر وإحساسه المرهف. امتهن حرفة النّجارة وأصبح نجّارا معروفا في كامل الجهة. ورغم أنّه لم يكن مُتعلّما، إلّا أنّه كانَ خبيرا مُعتمَدا في قسمة الأراضي وقيسها وتعديلها ومِمَّن إليهم المرجِعُ في ذلك. ويُروى أنّ له شهادة من الدّولة العِلّيّة (الباي) تُخوّل له ذلك. كما تشهد كثير من وثائق الشّهادة العدليّة على قيامه بقسمة أراضٍ و"هناشير" في حمام الأغزاز وقليبية وكركوان، وحتّى خارج الوطن القبليّ.
أُثِرتْ عن شاعِرنا الحاج مُحمّد حمادة قصائِدُ وغناء وطرائفُ وأخبارٌ وأقوالٌ جرت مجرى الأمثال. لكنّ الأجيالَ اللّاحقةَ في حمام الأغزاز كانوا للأسف مُقصِّرين، إذ لم يُوثّقوا لنا تلك المادّة الأدبيّة، فلم يتبقَّ لنا اليوم منها إلا النّزرُ القليلُ الذي لا يكاد يشفي الغليل.
فمن أشهرِ أشعاره:
-         قصيدة الأمكنة التي تُعتبرُ وثيقة تاريخيّة هامّة توثّق أسماء كثير من المواضع في حمام الأغزاز.
-         قصيدة: "عذّبني همّ السّنيان" وهي من أجمل ما قيل في وصف عمليّة "السّني" وما يصحبها من متاعب.
-         قصيدة: "طول عمري في الهزب" التي قالها ساخِرا من "شيخ النّجع" الذي حلّ بحمام الأغزاز.
-         قصيدة: "ياما ما ناخوشي غُزّيّ" التي غزت شُهرتُها كامل الجهة، والتي قالها ساخرا من امرأة غُزّيّة رفضت الزّواج برجل غُزّيّ.
-         قصيدة: "يا بطنتي عملت العار" التي قلع على إثرها أضراسَه.
إلى غير ذلك من القصائد والحكايات التي سنتعرّض إليها لاحِقا في مقال آخر.
عاش الحاج مُحمّد حمادة في آخرِ حياتِه بحمام الأغزاز. وكان سيِّدا مَهيبا في قومِه، يمتلك سلطة روحيّة ومعنويّة، ويحتكم إليه النّاس في ما يشجر بينهم من خلافات. وكان عاشِقا للحياة والجمال والفنّ، حُرّا أبِيًّا، كارِها للظّلمِ وأهلِه، نصيرا للحقّ وأصحابِه.
رحل الحاج حمادة في مُستَهلّ ربيع سنة 1912، وفي أحبّ الأوقاتِ لديه، لأنّه وقتُ موعدِه مع عشيقه "السّاف"، ذلك الطّائر الجارح الذي يمرّ في ذلك الوقتِ من كلّ سنة متّجها إلى أوروبا. لم يشأ القدَرُ إذن أن يَلتقيَ العاشِقان في تلك السّنة، فرحل "السّاف" بدون "الحاج حمادة"، ورحل الحاج حمادة بدون "ساف"، ولسانُ حالِه يقول: (مِن شِعرِه)

حليلي اللي ما عندو ساف          زوّالي وبارد الأكتاف

ترك الحاج محمد حمادة ستة أبناء من زوجته الأولى (آمنة بنت أحمد بن عليّ بن قاسم بن عليّ بن عبد الدّائم الغزّيّ) وهم: عبد الرّحمان وفاطمة الكبرى وحورية ورقيّة وخدّوجة وعائشة. وسبعة أبناء من زوجته الثّانية (عائشة بنت أحمد بن الحاج عليّ بن الحاج صالح) وهم: حمّادة ومُحمّد (شهر العريبي) وعليّ (شهر عليّة) وبوبكر وصالحة وآمنة وفاطمة الصّغرى.

ملاحظة: الصّورة المصاحِبة للنّصّ أعلاه هي اسم الشّاعر مكتوبا بخطّ يده من وثيقة مؤرّخة في 14 أفريل 1894.

مزار بن حسن