26 janv. 2015

الأغزاز وقدومهم من المشرق الى بلاد المغرب والاندلس 2: ظهورهم في دولة الموحدين

الأغزاز وقدومهم من المشرق الى بلاد المغرب والاندلس :2:


 ظهورهم في دولة الموحدين



كان الموحدون أول دول المغرب استخداماً للغز في جيوشهم، لا سيما على عهد ثالث خلفاء الموحدين أبي يوسف يعقوب المنصور حكم 1184 - 1199م، بعد أن قدم من مصر المغامر الأرمني الأصل شرف الدين قراقوش - الملقب بالغُزِّي - على رأس فرقة من الأغزاز العام 568هـ/ 1172م، على عهد صلاح الدين الأيوبي، وتمكن - بالتحالف مع بني غانية من فلول المرابطين في جزيرة ميورقة - من انتزاع معظم البلاد التونسية من أيدي الموحدين. ولمواجهة هذا الخطر، قاد السلطان الموحدي يعقوب المنصور بنفسه حملة كبرى من عاصمته مراكش ضد قراقوش وحلفائه. وفي وقعة عمرة بأحواز قفصة، هُزم جيش موحدي على أيدي الأغزاز والموارقة 15 ربيع ثاني 583هـ/24 حزيران 1187م، ووقع القائد الموحدي أبو الحسن علي بن الربرتير في أسر الأغزاز أصحاب قراقوش. ويبدو أن الغز بقسيّهم لعبوا دورا مهما في احراز النصر إذ "ناشب الأغزاز القتال... فدفع القائد أبو الحسن بن الربرتير بجملته... فغشيته وأصحابه سحائب سهام أكبَّت منهم جماعة لوجوههم كسقوط الألغام... وكانت تغشاهم سحائب السهام كسحاب الغمام، وهم في مثل حلقة من الازدحام... يتوقعون المنايا من كل الجهات، ويتدافعون على مثل ظهر القنفذ...".
ولما علم المنصور - وكان بمدينة تونس - بما حل بجنده، توجه بنفسه على رأس جيش كبير وأوقع ببني غانية والأغزاز هزيمة كبرى عند حامَّة مطماطة بالقرب من مدينة قابس 9 شعبان 583هـ/ 14 تشرين الأول 1187م. ولم تلبث ان سقطت قابس وقفصة في أيدي الموحدين، واستسلم من بهما من الأغزاز بعد أخذ الأمان وألحقوا بجيش الموحدين وبعد استسلام الأغزاز بقفصة، سيّرهم المنصور الى الثغور لما رآه من شجاعتهم ونكايتهم. وفي ذلك يقول شاعر المنصور أبو بكر بن مجبر:
وما أغنت قسيُّ الغُز عنها
فليست تدفع القدرَ السهامُ
وقال أيضاً من قصيدة يمتدح فيها المنصور ويذكر هزيمة الأغزاز:
أنحى الزمان على الأغزاز واجتهدت
في قطع دابرهم أحداثه السود
وفي الرسائل الموحدية، التي كانت ترسل من ساحات القتال الى أشياخ الموحدين وطلبتهم في مراكش، اشارات عدة الى هؤلاء الغز. ففي رسالة من انشاء الكاتب ابن محشرة 13 شعبان 583هـ/ 23 تشرين الأول 1187م من ظاهر قابس الى الطلبة والموحدين والأشياخ بمراكش - بعد اسبوع من وقعة حامة مطماطة - قوله: "فقد علمتم ما كان من الأشقياء الغزيين، واخوانهم في الضلالة الميورقيين من التسحب على أرجاء هذه الجهة الافريقية وأكنافها... وكان بقابس بنو الشقي قراقوش وأهله... ومعهم جماعة من أوباشه الذين يعتمد عليهم... فتحصنوا بقصبة منها منيعة الجوانب... وأجمعوا على الاستماتة بها... وهذه المدينة العتيقة قابس روح هذه الجهات الافريقية ومعناها... وما تمشى للأغزاز - أبادهم الله - ما تمشَّى الا بملكها...".
وجاء في رسالة مؤرخة في 2 رمضان 583هـ/ 5 تشرين الثاني 1187م - أي بعد اسبوعين من الرسالة السابقة - من انشاء ابن محشرة الى الطلبة والموحدين والأشياخ بتونس، من ظاهر قفصة، أن الموحدين ألفوا بقفصة "جملة ذميمة من أشقياء الأغزاز وأتباعهم... وفي يوم الحلول بقفصة، وصل خطاب قراقوش وارساله راغباً في التوحيد الالتحاق بالموحدين خاضعاً... معلماً انه ان قبلت توبته وأجيبت رغبته، جاء الى الموحدين... مطيعا سامعا. ووصلت في غده ارسال أبي زيان ومخاطبته، معرفا بركونه الى هضبة هذا الأمر العظيم وركنه... وهو زعيم من زعماء الأغزاز يضاهي قراقوش في قدره، ويقاسمه في أمره. وكان قد انتبذ عنه أنفة من مشاركته... واستبد بطرابلس ونواحيها، وأظهر دعوة التوحيد فيها...".
وفي رسالة من قفصة، بعد استيلاء الموحدين عليها ذو القعدة 583هـ/ حزيران 1188م الى الطلبة وأشياخ الموحدين بمراكش ان التأمين اندرج على الأغزاز وأتباعهم وجميع أهل قفصة باستثناء "المرتدين المارقين والضالين الميورقيين"، وعاد الى تلك الموحدين معقل قفصة الأشب "ولم يبق في هذه الجهات كلها من الأغزاز من ينفخ للفتنة في خرم... إذ أذهبت هذه الغزوة المباركة يوم الفتح الأعظم أنجادهم وأعيانهم، وتملكت بقابس وقفصة أشداءهم وشجعانهم، فصار جماهيرهم وأهل البسالة والنجدة منهم خول الموحدين وعبدانهم، واجتمع منهم عندهم جملة وافرة، وجماعة ظاهرة، وأعداد جمة متكاثرة...".
وفي رسالة تالية من انشاء ابن محشرة - لعله صاحب كتاب "الاستبصار" - بتاريخ 10 ربيع أول 584هـ/ 9 أيار 1188 الى الطلبة وأشياخ الموحدين بمراكش، من منزل أبي سعيد، "وكنا - وفقكم الله - قد عرّفناكم بمن استولي عليه بقابس... من الأغزاز، ومن استنزل منهم بقفصة... وقد اجتمعت منهم كتيبة جأواء، وفيلق شهباء، وجحفل بخباء، ترتعص منه الأباطح... وحصلوا في ملكة هذا الأمر العزيز بكافة أحوالهم، وجميع من معهم من بنيهم وأهليهم وأموالهم... وقد قدموا بين يدي الموحدين... غُنماً يروق أهل المغرب منظره...". وألحق الأغزاز بعد استسلامهم بجيش الموحدين المرابط في افريقية، اذ تشير الرسائل الموحدية الى "عسكر من الموحدين والأغزاز والعرب" والى "جيش من الموحدين والأغزاز والأعراب".
ومهما كان الدافع أصلاً لقدوم قراقوش والأغزاز من مصر الى افريقية، فإنه كان لقدومهم وأعمالهم الحربية في البلاد التونسية - وتحالفهم مع بني غانية - مضاعفات وآثار سيئة في ما بعد على علاقات الموحدين بالدولة الأيوبية. فبعد وقعة حطين واسترداد بيت المقدس 583هـ/ 1187م وتأهب ملوك أوروبا لتجهيز حملات عسكرية ضخمة الى فلسطين، استنجد صلاح الدين الأيوبي بالسلطان الموحدي يعقوب المنصور لاعتراض سبيل الصليبيين الوافدين بحراً، الا أن أعمال الأغزاز في أراضي الدولة الموحدية كانت من الأسباب الرئيسية التي حالت دون تلبية المنصور لهذا الطلب.
تأثر يعقوب المنصور ببسالة الأغزاز وفاعلية رماتهم، فحرص على تجنيدهم في جيوشه، وبالغ في اكرامهم لكسب ثقتهم وولائهم له. يذكر ابن الأثير ان أبا يوسف يعقوب المنصور سيّر الأتراك "الى الثغور لما رأى من شجاعتهم ونكايتهم في العدو". وقد شارك الأغزاز في الغزوة الكبرى التي قادها المنصور بنفسه في غرب الأندلس، واسترد فيها مدينة شلب من أيدي الصليبيين 586هـ/ 1190م. ولما استعرض المنصور عناصر الجند لدى عودته الى اشبيلية "ركب السودان على النجب البيض بأيديهم الدرق، وعلى رؤوسهم طراطير الطيلقان الشديد الحمرة، وصدور النجب منظومة بجلاجيل أجراس على شكل السفرجل، والأغزاز بضروب الحلل، وظهر مرأى تحار فيه الأبصار، وتذهل الخواطر والأفكار".
ويشكو عبدالواحد المراكشي صاحب "المعجب" من الحفاوة البالغة التي لقيها الغز من جانب السلطان الموحدي يعقوب المنصور لدى وصولهم الى مدينة مراكش، ومن الامتيازات التي حظوا بها دون سائر جند الموحدين. فقد بالغ المنصور "في تكرمتهم، وجعل لهم مزية ظاهرة على الموحدين، وذلك ان الموحدين يأخذون الجامكية العطاء ثلاث مرات في كل سنة... وجامكية الغز مستمرة في كل شهر لا تختل. وقال المنصور: الفرق بين هؤلاء وبين الموحدين ان هؤلاء غرباء، لا شيء لهم في البلاد يرجعون اليه، سوى هذه الجامكية، والموحدون لهم الأقطاع والأموال المتأصلة. هذا مع أنه أقطع أعيانهم الغز أقطاعاً كأقطاع الموحدين أو أوسع. فقد أقطع شعبان الغزي بالأندلس قرى كثيرة تغلّ في كل سنة نحواً من تسعة آلاف دينار، هذا خارجاً عن جامكيتهم الكثيرة التي ليس لأحد من الأجناد غيرهم مثلها". ان شعبان الذي يشير اليه المراكشي كان من أمراء الغز، يقرض الشعر، وذا ميول أدبية، وهو ابن كوجيا من غزّ الموصل، وفد على يعقوب المنصور "ورفع له أمداحاً جليلة، وقدمه على مدينة بسطة BAZA من الاندلس. قال أبو عمران بن سعيد: أنشدني لنفسه:
يقولون ان العدل في الناس ظاهر
ولم أرَ شيئاً منه سراً ولا جهراً
ولكن رأيت الناس غالب أمرهم
إذا ما جنى زيد أقادوا به عمرواً
وإلا فما بال النطاسيّ كلما
شكوت له يُمنى يدي فصدَ اليسرى؟
وكان المراكشي يعرف شعبان الغزي، وهو يطريه إذ يقول: "ولم يرد المغرب من هذه الطائفة - أعني الغز - ألطف حساً، ولا أزكى نفسا، ولا أحسن محاضرة، ولا أطيب عشرة من شعبان هذا المذكور، ما لقيته الا استنشدني أو أنشدني... وفي الجملة، كان له شغف بالآداب شديد، وكان يقرض شيئاً من الشعر، وربما ندرت له الأبيات الجيدة". ويترجم صاحب "الذيل والتكملة" لعمر بن عثمان بن محمد بن أحمد الغزي فيقول انه فقيه خراساني، قدم الأندلس سنة 600هـ/ 1203م، ودخل مالقة وغرناطة وغيرهما، وروى عنه الكثيرون، وكان من خيار الناس وفضلائهم، صحيح السماع، ثقة فيما يرويه.
وكما تقدم، فإنه بعد أن استسلم للمنصور عدد وافر من الأغزاز في قابس وقفصة، ألحقهم بجيشه، ونقلهم معه الى مراكش، واتخذهم رماة في غزواته في الأندلس، ولذلك فإن اسم الغز كثيراً ما يتردد في كتب التاريخ الأوروبية في القرون الوسطى ضمن جيوش الموحدين المحاربة في الأندلس. وكان لرماة الغز في جيوش الموحدين شهرة رماة مدينة سبتة. وكان الواحد منهم يحمل قوساً عُرف بالقوس الغزي، وكانوا يحتلون الصفوف الأمامية في الجيش، ودورهم شبيه بدور المدفعية في الجيوش الحديثة، إذ برشقهم النبال على صفوف الأعداء كانوا يمهدون لتقدم الفرسان والمشاة. وقد نوه يعقوب المنصور بالغز في وصية حين قال: "وهؤلاء الأغزاز أمرنا لهم بهذه البكرة يأخذونها، فاتركوها على ما رتبنا وربطنا، لأن الموحدين لهم سهام يرجعون اليها، وليس للأغزاز سهام".
ج - بعد الموحدين
يرد ذكر الغز في جيوش الدول التي أعقبت الموحدين في المغرب، بعد منتصف القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، كبني مرين في فاس، وبني عبد الواد بني زيان في تلمسان، والحفصيين في تونس.
فقد صار الى الأمير المريني يحيى بن عبدالحق - بعد أول انتصار له على الموحدين - كتيبة الروم والناشبة من الغز". وساهم رماة الغز في الغزوات الأربع التي قادها في الاندلس أول سلاطين بني مرين أبو يوسف يعقوب. وفي احدى هذه الغزوات عند مهاجمة شريش "تقدمت الأغزاز ورماة المسلمين فرشقوهم بالنبال، ثم رجعت عليهم خيل بني مرين والعرب، فهزم النصارى". وفي غزاة في الأندلس لثاني سلاطين بني مرين، أبي يعقوب يوسف، "خرج شيخ الأغزاز قاصداً في مئة فارس الى قلعة الوادي Alcala del Rio فأغار عليها وقاتلها، فقتل على بابها ما يزيد على سبعين "علجاً وأسر كذلك".
ويورد لسان الدين بن الخطيب - الأديب والوزير الغرناطي، وكان لاجئاً بمدينة فاس - وصف شاهد عيان لجيش السلطان أبي سالم المريني سنة 761هـ/ 1360م فيقول: "تقدمت الجمع كراديس الغز الرماة الناشبة، بين أيديهم قوم من مشاهير الميدان وذوي الثقافة". كما يبدو ان بعض فرق الجيش المريني تأثرت بالأغزاز زياً وزحفاً للقتال، ففي لقاء مع جيش لأحد الثائرين عليه 763هـ/ 1361م، أمر السلطان المريني من في جيشه "من القبيل المريني بالمناوشة والاختصاص بباكورة اللقاء، ثم أردفوا بالناشبة ورماة القسيّ العربية، فرجفت راياتهم على شأن غز المشارقة، من المزمار والطبل، وحمل جمّة الشعر في أرنية سنان الراية".
ولما شيّد السلطان المريني أبو يوسف بن عبدالحق فاس الجديدة المدينة البيضاء سنة 674هـ/ 1276م، أمر بتقسيمها الى ثلاثة أقسام منفصلة: القسم الأول للقصور الملكية، والثاني اصطبلات كبيرة للخيول، "أما القسم الثالث، فقد أعدَّ لسكنى الحرس الخاص بالملك، وكان يومئذ مؤلفاً من المشارقة الأغزاز المسلحين بالقسي، لأن استعمال قاذفات البارود لم يشع بعد في البلاد، وكانوا يتقاضون مرتباً عالياً من الملك... ويشغل اليهود في أيامنا هذه أوائل القرن السادس عشر جزء المدينة الذي كان مقاماً قديماً لحرس الرماة".
ويبدو انه كانت للأغزاز مقابر خاصة بهم إذا أخذنا بما يذكره ابن أبي زرع الفاسي من أنه، في سنة 719هـ/ 1320م، أمر السلطان أبو سعيد "ببناء الجبوب برأس قبور الأغزاز، فبنيت".
وكان للسلطان أبي حمو صاحب تلمسان قائد غزي هو موسى بن علي عهد اليه أكثر من مرة بقيادة جيش الأمير في حروبه مع المرينيين والحفصيين. وكان ليغمراسن الزياني فرقة من الغز ورثها عن الموحدين، وأخرى من الأكراد قدمت بعد استيلاء هولاكو على بغداد 656هـ/ 1258مي، ويبدو ان الجماعتين اندمجتا آخر الأمر. ولعل هذا الاندماج يفسر السبب الذي من أجله عرف موسى بن علي بالكردي والغزي في آن واحد.
أما الحفصيون في تونس، فكان جندهم متعدد الأجناس، من بينهم على عهد أول سلاطينهم أبي زكريا حكم 1228 - 1249م "جموع من الغز القدماء الذين هاجروا الى المغرب في مدة بني عبدالمؤمن الموحدين، ونحو ألف فارس من المماليك الأتراك، ابتيعوا من مصر".
هذا، ولم يفقد الأغزاز أهميتهم في جيوش المغرب الا بعد ظهور الأسلحة النارية، وأصبح يشار اليهم منذ القرن السادس عشر باسم الأتراك. يقول المستشرق الهولندي دوزي Dozy ان الغز فقدوا منذ القرن السابع عشر المكانة المرموقة التي كانوا يحظون بها في جيوش المغرب، وأصبح يعهد اليهم بتكبيل السجناء بالحديد، وضربهم بالسياط، ثم بحزِّ رؤوسهم. ويذكر ان اللغة البرتغالية احتفظت بكلمة "algoz" بمعنى الجلاَّد.
 أمين توفيق الطيبي: أستاذ جامعي فلسطيني في اوكسفورد.
http://daharchives.alhayat.com/issue_archive/Hayat%20INT/1999/6/3/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D8%B2-%D9%88%D9%82%D8%AF%D9%88%D9%85%D9%87%D9%85-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%BA%D8%B1%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AF%D9%84%D8%B3-%D8%B8%D9%87%D9%88%D8%B1%D9%87%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D9%86.html

19 janv. 2015

الأغزاز وقدومهم من المشرق الى بلاد المغرب والأندلس: 1

الأغزاز وقدومهم من المشرق الى بلاد المغرب والأندلس:


 الغُزّ تسمية عربية لفرع من القبائل التّركية استوطنت أواسط آسيا ... وحتى تخوم الصّين 1 من 2


الغز Oghuz هي التسمية العربية لفرع من القبائل التركية التي كانت تقطن، قبيل ظهور الاسلام، رقعة واسعة من أواسط آسيا تمتد من تخوم الصين شرقاً الى البحر الأسود غرباً. يقول ابن خلدون: "وكان الظهور فيهم الأتراك لقبيلة الغُز من شعوبهم، وهو الخوز، الا أن استعمال العرب لها عرَّب خاءها المعجمة غيناً، وأدغمت واؤها في الزاي الثانية فصارت زاياً واحدة مشددة" .
وكانت هذه القبائل في معظمها تعيش على الرعي وتربية الخيول، واشتهر ابناؤها فرساناً ورماة بالقوس والنشّاب، ويذكر ابن خلدون "ان أمم الترك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسهام". ويحدثنا المروزي - الذي كتب في حدود سنة 514هـ 1120م - عن هؤلاء الأغزاز في موطنهم الأول في أواسط آسيا فيقول: "الترك أمة عظيمة كثيرة الأجناس والأنواع، كثيرة القبائل والأفخاذ... ومن قبائلهم العظيمة الغُزِّيَّة... فأما الذين يسكنون البراري والصحارى، وينتقلون شتاء وصيفا، فهم أشد الناس بأسا، وأصبرهم على القتال والحروب... ونساؤهم يحاربن مثل الرجال، وانهن يقطعن أحد الثديين لترجع القوة كلها الى الذراع، وكي تخف أبدانهن ويثبتن على صهوات الخيل... ولا يمنعن من قطع الآخر الا حاجتهن الى رضاع أولادهن واستبقاء النسل، وانما يقطعن الواحد لئلا يحبسهن عن رمي النشاب على ظهور الخيل".
كان اعتناق الغُز للاسلام في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، فأخذ أمراء المسلمين في تجنيدهم في جيوشهم للقيام بغزوات الجهاد، وقد عرفوا لدى المؤرخين العرب باسم "التركمان"، ولدى الروم البيزنطيين باسم "Ouzoi". ومن أشهر قبائلهم السلاجقة الذين انتزعوا الأناضول آسيا الصغرى من أيدي الروم البيزنطيين بعد انتصارهم الكبير في وقعة مانزيكرت سنة 1071م، وسيطروا على معظم بلدان الشرق الأدنى في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي والأتراك العثمانيون هم أبناء عمومتهم .
وفي المصنَّفات المغربية ترد كلمات "الغز" و"الأغزاز" و"الغُزِّيون" و"الغُزِّية" للدلالة على الجنود المرتزقة من التركمان الذي وفدوا الى شمال افريقيا عن طريق مصر منذ منتصف القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي.
قام الغز بعد اعتناقهم الاسلام - بفضل قِسِيِّهم وخيولهم الخفيفة السريعة الحركة - بدور بارز في الذود عن أرض الاسلام في المشرق، كما فعل معاصروهم المرابطون في المغرب والأندلس. وكان الصليبيون - بخيولهم ودروعهم الثقيلة - يخشون هجماتهم، لما كان يتمتع به هؤلاء الغز من خفة وسرعة في الحركة، واجادة لأسلوب الكر والفر في القتال، وحذق في رشق النبال، يرمون بالنشاب وهم على متون جيادهم .
ويحدثنا مؤرخ فرنسي شارك في الحملة الصليبية الأولى عن قتال السلاجقة ضد الصليبيين في معركة دوريلايوم Dorylaeum في غرب الأناضول 1097م فيقول انهم "رماة بالنشاب، وكانوا كلهم من الفرسان، أما نحن الصليبيون فكنا مشاة وفرسانا... ووسط الصيحات وقرع السلاح ودوي الطبول، أمطرنا الأتراك بوابل من النبال، فبهتنا وكدنا نهلك، وجرح الكثيرون منا، وولينا الأدبار. وليس هذا بالأمر الغريب، اذ ان مثل هذا الاسلوب في القتال لم يكن مألوفاً لدينا" . ويضيف هذا المؤرخ الصليبي ان الأتراك كانوا ينصبون الكمائن ثم يرشقون بالنبال، وهم واثقون من شجاعتهم. وجيادهم سريعة الجري، مما يساعدهم على الكر والفر .
كان المحاربون الأتراك أسرع وأكثر مرونة في المناورة من الفرنجة، وقد عزي ذلك الى سرعة جيادهم وخفة أسلحتهم. كان القوس سلاحهم الرئيسي، وكانوا يحملون كذلك التُرس والرمح والسيف والهراوة، وهي أخف من أسلحة أعدائهم الثقيلة. واستغل الفرسان الأتراك ذلك من أربعة وجوه: فكان بوسعهم أولاً البقاء بعيداً عن عدوهم، مختارين اللحظة المناسبة لهم لشن الهجوم، ويلجأون الى الكر والفر. وثانياً، استخدموا كثيراً التصنع في الانسحاب، فينسحبون أحياناً لأيام عدة بغية انهاك الفرنجة وابعادهم عن قواعدهم، ونصب الكمائن لهم. وثالثاً، فانهم بفضل خفتهم وحركتهم كذلك كانوا يهاجمون العدو ويجبرونه على القتال أثناء زحفه، مركزين على ساقة الجيش .
والى جانب سرعة الحركة mobility، كانت الميزة الأخرى لقتال السلاجقة الرمي بالنُشاب، يرشقونها وهم على صهوات جيادهم من دون توقف وحتى عند التقهقر، كان بوسعهم الدوران فوق سروجهم ورشق نبالهم على مطارديهم. وكانت النبال تخرق دروع الفرنجة من دون ان تجرح لابسيها في كثير من الأحيان. وكثيراً ما شبه من كان يتعرض لهذه الهجمات بالقنافذ هم وخيولهم. وكان من نتيجة ذلك القضاء على تماسك العدو، والحاق الخسائر لا بالرجال فحسب بل وبالخيول أيضاً. ولما كان الفرنجة يعتمدون في انتصاراتهم في المعارك على هجمات فرسانهم، فإن الأتراك كانوا يدركون أهمية تدمير خيول أعدائهم. وبعد انهاك العدو وإرباكه، كان الأتراك يواقعون العدو بالرماح والسيوف. ولم يكن الأتراك على عجل لمواقعة العدو، بل كانوا يمهدون لذلك برشق العدو بالنبال لانهاكه وتفريق شمله، والحاق الخسائر برجاله وخيوله، ثم يختارون اللحظة المناسبة للاشتباك مع العدو .
وبعد شبه الكارثة التي حلت بالصليبيين في موقعة دوريلايوم، تبيّن للقادة الصليبيين أن أساليبهم الحربية التقليدية لا تصلح لمجابهة فرسان السلاجقة الذين كان من عادتهم ان يبدأوا هجومهم برمي النبال من بعيد فترة من الزمن على أمل ان يحملوا العدو اما على شن هجوم سابق لأوانه - وكان بوسع فرسان الأتراك ان يتفادوا هجوماً من هذا القبيل بسهولة - واما ان يفرقوا بين صفوف العدو، وبذلك يتسنى للأتراك شن هجوم بالرماح والسيوف، مستغلين الثغرات في صفوف الأعداء.
كان الغز السلاجقة من الأنصار المتحمسين للاسلام السُنّي، ولمحاربة الصليبيين في بلاد الشام ومصر. ولكن الفاطميين في مصر لم يكونوا مرتاحين لقدومهم الى مصر لصد حملة صليبية على البلاد. فقد كتب السلطان نورالدين زنكي الى الخليفة الفاطمي العاضد في القاهرة مهنئاً برحيل الفرنج عن ثغر دمياط، وتلقى كتاباً من العاضد يشكو فيه من الأتراك في مصر. فكتب اليه نورالدين يمتدح الأتراك "ويعلمه انه ما أرسلهم واعتمد عليهم الا لعلمه بأن قنطاريات رماح الفرنج ليس لها الا سهام الأتراك، فإن الفرنج لا يرعبون الا منهم، ولولاهم لزاد طمعهم في الديار المصرية".
الأغزاز
في المغرب والأندلس
أ - قبل قيام دولة الموحدين
ثمة اشارتان في المصادر المغربية الى وجود بعض عناصر الغز في المغرب في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. فابن أبي زرع الفاسي يذكر ان يوسف بن تاشفين، سلطان المرابطين، جنّد الأجناد في سنة 454هـ/ 1095م "وجعل في جيشه الأغزاز والرماة" . إلا أنه ليس ثمة ما يؤيد هذا القول. ويبدو أن ابن أبي زرع - الذي ألّف كتابه بعد ذلك التاريخ بقرنين ونصف القرن - يحسب ان كلمة "الغز" تعني فقط رامياً أو رامياً يستعمل قوساً من نوع خاص .
ويذكر ابن عذاري انه ظهر في افريقيا البلاد التونسية في حدود سنة 488هـ/ 1095م غُزِّيٌّ يشار اليه أحــياناً بأنه تركي ومعه مئة من اتـباعه، فتلقاه الأمير الزيري تميم بن المعز وأكرمه، وقال انه سيــنتفع بهم كما ينتفع بمئة ولد، وانه يعرف كيف يستخدمهم. إلا أنه سرعان ما دب الخلاف بين هؤلاء الأتراك وبين سيدهم الجديد، وبعد مناوشة، اختفوا من التاريخ من دون أن يتركوا - كما يبدو - أي أثر.
ويرد ذكر الغز في احدى رسائل "جنيزة القاهرة" في قرينة غير منتظرة تماماً، وذلك في خطاب من طليطلة الى ألمريَّة بالاندلس في العشرينات أو الثلاثينات من القرن الثاني عشر للميلاد، أي في أواخر أيام المرابطين في الاندلس. وكاتب الرسالة هو الشاعر اليهودي يهودا بن ليفي اللاوي Judah La-Levi الذي يكنيه العرب بأبي الحسن، وكان طبيباً ومن رؤساء الطائفة اليهودية. وقد تناول في الخطاب قضية امرأة يهودية كانت سافرت في قافلة من تجار المسلمين، وأسرها النصارى. وكانت فدية الشخص الراشد 33 دينارا. وتذكر الرسالة ما تم جمعه من ذلك المبلغ أملاً في أن يدفع الباقي الشخص الموجهة اليه الرسالة في مدينة ألمرية. وكان من بين من تبرعوا "الترك الغز" بقيمة أربعة دنانير. ولعل من أشار اليهم خطاب يهودا بن ليفي كانوا تجاراً سلاجقة مسافرين في القافلة نفسها كالمرأة اليهودية .
 المصدر: جريدة الحياة
الكاتب: أمين توفيق الطيبي
تاريخ النشر(م): 2/6/1999
تاريخ النشر (هـ): 18/2/1420
رقم العدد: 13234
الصفحة: 23