18 juin 2015

عندما يتّسِعُ الحُبُّ: قصّة للكاتب: الهادي عمران الغُزّيّ

عندما يتّسِعُ الحُبُّ



قصّة: الهادي بن عمران بن الحاج عليّ

نشرتْ مجلّةُ الفكر في  30 أفريل 1985 قصّةً قصيرةً وطريفةً للكاتب والمربّي الفاضل "الهادي عمران بن الحاج عليّ" أحد أهمّ رجال الثّقافة بحمّام الأغزاز. وتكريما له نُعيدُ نشرَ هذه القصّة التي مرّتْ على تأليفِها ثلاثونَ سنةً. تحيّة وفاء إلى سي الهادي. ونقول له: رمضانك مبروك وكل عام وأنت بخير بيننا.

القصّة:
مكسورةٌ خواطِري كقلبِ أميرِكِ.. ومَجروحة كلماتي كقلبِ أميرِكِ.. ومُحاصَرة نظراتي كحصارِ أميركِ.. ومُمزَّقةٌ مُفرداتي كقلبِ أميرِك.. ومخنوقة عصافيري كصوت أميرِك..
وكيف يبتسم القلبُ وقد أتعبَه وأضناهُ الفراق؟ وكيف تُزهر الخواطرُ وتُثمِر وقد حرَموا أميرَها الماءَ والهواءَ والشّمسَ؟ وكيف تستقيم الكلماتُ والجُملُ وشاعِرُها مُحاصَرٌ مخنوق يُطارده البعد وتمزّقه الجراحاتُ؟ وهل تُزهر الرّياحينُ والنّبعُ الذي تُسقى منه مالِح؟ وهل تُغنّي العصافيرُ في أرضٍ جدباءَ قاحلةٍ تحت المطرِ والعواطف والرّياح؟ فماذا سأكتُب إليك يا قمري؟ ماذا سأقول لقمري وهالَتُه ألغت جميعَ اللُّغاتِ؟
-        قمري لا يُصدّق لغة العواطف ولا لغة العواصف ولا لغةَ البرقِ ولا نشيدَ المطر !
ماذا سأكتُبُ ولُغتي مُضحِكة وأحاسيسي هُراء وخواطري سخافاتٌ وبكائي تغريدٌ ونايي خنجرٌ وعبيري لا يُشمُّ؟ ماذا سأكتُبُ وكلماتي احترقت أمام ابتساماتِ أميرتي؟ ماذا تراني أقول وفي داخلي سمفونيّة باكيةٌ حزينة وشرايينُ قلبي أوتارٌ تعزِف أغنيةً فريدةً من لحن قرطِ أميرتي اللّوزيّ الأحمر الرّاقصِ على صحنِ خدِّها الرُّخاميِّ؟ ماذا تراني أقول إليها والمحزمة الحمراءُ تشدّ عيني تلفّني كما تلفّ خصرَها الملائكيَّ الأهيفَ؟
واحرَّ قلبي ! قصيدي أضحكها ليلةً ! عزائي أنّه لم يُبكِها على الأقلّ. واحرقتي ! أحاسيسي نحوها تراءت لها كاذبةً ومبالَغا فيها !عزائي الوحيد أنّ أميرتي الصّغيرة قرأت شعري ولم تُلقِ به في سلّة المهملات.. !
وا أسفي، إنّ عينيَّ أحيانا تفضحانني، ولساني يسبقني فيُترجِم لها أحاسيسَ قلبي رغم محاولاتي العديدةِ لكبتِها وإخفائها عنها وهي نقطة ضعفي. نعم هي نقطةُ ضعفٍ فيَّ... ماذا تراني أقول وعقلي محشُوٌّ بالمخاطر، ونفسي تزخر بالأحاسيس، والمخاضُ صعبٌ، ودواتي تَطفح بالحُزن؟ أيّ أرضٍ حبستْها عنّي؟ أيّ رياحٍ أبعدتْني عنها؟ أبعدتْك عنّي؟ يا زمانا شُدّت فيه يدانا، تشابكت فيه أصابعُنا، رقصت لنا الدّنيا في لحظات هي عندنا أحلى اللّحظات ! ذوّبتنا، ذُبنا في غربةٍ نشوانَيْن كعصفوريْن التقيا وحيدَيْن في جزيرةٍ نائية من جُزُر الأحلام بعد فراقٍ طويلٍ. وزغردت لنا الكائناتُ نشوى فنسينا ما يجري .
وافترقنا ولا أحدَ في شوارِع المدينة يبكي علينا، يبكي معنا، وهاجمنا الصّمتُ المُرعِبُ والمُخيفُ من كلِّ صوبٍ وكِدنا نختنق في ثوانٍ، وإنّي لأشعُرُ أنّ البُعدَ سيقطعنا إلى فلتيْن، وسيقتلنا مثل شهيديْن، وسيصلبنا مثل قدّيسَيْن، وسيشنقنا مثل نجمتيْن، وسيُحاصِرنا حصارَ "حاضِن النّهديْن" لنهدَيْن يتوقان إلى الحرّيّة !!!
أميرتي لم ترَ النّورَ إلّا لحظاتٍ كانت أجملَ اللّحظاتِ وأحلاها، حملتُكِ فيها على ظهري، حملتُك فيها أغنيةً عذبةً، أنشودةً رائعةً، أحلاما ورديّة، ونفثتُ فيك كلَّ روحي وحمّلتُك ما لا تطيقين، وحمّلتِني ما لا أطيق، وكنت صبورةً، كان صدرُك رحبا يتّسع للعالمِ بأسرِه، وكانت عيناكِ زادي الوحيد، وكنت تشعرين بإفراطِ حُبّي وكلَفي بكِ، وتعرّفتِ على نقاطِ ضُعفي فكُنتِ تميسينَ في دلالٍ، وما دريتِ أنّكِ كنت تقتلينني عرقا عرقا، وأعجبكِ دورُكِ فكنتِ تمعنين في تعذيبي، وغلبْتِني وانتصرتِ عليَّ، وحلا لكِ الانتصارُ، وكسبتِ الرّهانَ في الجولةِ الأولى، وكان لكِ ما كان، واعتبرتُ نفسي فائزا ما دُمتَ أنتَ طرفا في الرّهان، وبدأتِ تقفزين من حين إلى آخرَ إلى مخيّلتي، فكنتِ توقظينني من نومي، وتصعدين درجَ ذاكرتي في اختيالٍ ودلالٍ، وأسرح معكِ، مع قامتك الهيفاء، مع عينيْك الذّابلتيْن، وأغيب في ظلمةِ شعرِكِ، وبدأ الذّهول يشدّني، وأصبحتُ أميلُ إلى الوحدة، ولفّني القلقُ واحتواني الحزنُ، وأصبحتُ أتعمّدُ اللِّقاءَ بكِ، وأحاول أن أجدَ أعذارا ولو واهيةً للحديث إليك، وكثرت غياباتي عن المنزل، وتضاءل حديثي مع زوجتي ومع أطفالي وحتّى مع الأصدقاء، وبِتُّ لا يحلو لي حديث ولا جلوس إلا معكِ، فقد كنت أعيشُك شعرا ونثرا، رسائلَ وأوراقا...
وتفطّنت زوجتي لذلك فعابت عليَّ تصرفاتي، وحاولتُ إقناعَها بأنّ حبيبتي تبقى حبيبتي أحملها بين أضلُعي بسمةً ودمعةً، حلما وحقيقة، صحوا ومطرا، ولا أحد فوق الأرض يُنازعني حُبَّها، وحاولت زوجتي في عمليّة يائسة حرق أوراقي، رسائلي إليها فلم تفلح... وحاول الأصدقاء صرفها عن مخيّلتي فلم ينجحوا. وكانوا كلّما عيروها أمامي ثُرتُ في وجوههم وازددتُ تعلُّقا بها حتّى بتُّ مريضا بهواها، وكنت كلّما ضاق صدري أسرع إلى القلم وإلى القرطاس فأبثّها أشجاني وأشواقي، وكانت أميرتي تعي ما أشعر به نحوها، لعلّها كانت تُبادلني نفس الشّعور، وكنت أحيانا أشعر بالخوف بل كنت أشكّ في تصرّفاتها ربما كانت تجاملني وتتظاهر بحبّي رفقا بقلبي، فأعود وألعن ظنّي... وكثرت خلواتي بها في النّادي، كنت أغازلها في شوق، وكانت بنظراتها المنكسرة وبنبرات صوتها العذب وبحركاتها البريئة لوحةً زيتيّةً متكاملةً يصعب على أيّ فنّان رسمُها ومحاكاتُها وأصبحتُ أسهر اللّيالي الطّوالَ خارج المنزل بعيدا عن عائلتي، وقد لاأعود إلى بيتي إلاّ في ساعة متأخّرة من اللّيل. واشتدّ القلقُ بزوجتي وكثرت الظّنون بها، ولامتني مرارا:
-        لم تعدْ تهتمّ بأطفالك يا رجلُ، لا تنسَ أنّ لك بيتا وزوجةً وبنين وأنّ لهم الحقَّ عليك، أفقْ إلى نفسِك وعُد إلى رُشدِك.
وكنتُ أُجيبُها بكلِّ لطفٍ:
-        أُحبُّكم كما أحبّ أميرتي...
وأذكُر أنّها حاولت مرّةً تكسيرَ الجدارِ، جدار صمتي وذهولي الدّائميْن، ولمّا أدركت أنّ الحالةَ بدأت تسوء، وأنّ المدينةَ كلَّها أصبحت تلومني على شدّة تعلُّقي بها، تأبّطتُ ذراعَ أميرَتي وشددتُ على كتفها النّاعمِ بأصابعي وخرجت بها إلى الشّارع وكأنّني أقول للجميع:
-        انظُروا هاهي أميرتي التي كنتم تلومونني فيها...
كانَ رأسُها على صدري، وكنّا نسيرُ مُختاليْن في شوارع المدينة. كانت كغجريّةٍ فارسيّة، وكان شعرُها على كتِفي كحقل قمحٍ تحت المطر، وكانت أصابعها تضغط على أصابعي في جذلٍ، وخصلاتُ شعرِها ترقصُ مع هبّاتِ الرّيح كطرحةِ العروس فأُحسّ أنّ العالمَ صار في قبضتي.
كنت أستمع إلى دقّات قلبِها كما كانت تستمع إلى دقّاتِ قلبي. وتصدّرنا أمام المقاهي على مرأى ومسمع من المدينة كلِّها، وجها لوجه مع العذّال. وعطّرنا ساحاتِ المدينة وشوارعَها وأزقّتَها بنفحاتنا. وتهاطل الصّحافيّون علينا والتقطوا صورا عديدة كانت أشرطةً تلفزيّةً بديعةً، ووجدت الجرائدُ والمجلّاتُ ما تُغطّي بها صحائفَها. وكانت النّدواتُ واللّقاءاتُ. وأصبحت أميرتي نجمةً بل قمرا ينير لياليَ المدينة بعد أن تُوّجت. لم يكن تاجُها ذهبا ولا ماسا، فهي ليست في حاجة إلى تتويج من هذا النّوع، بل كان إكليلها تصفيقَ الجمهور لها وشهاداتِهم فيها أنّها فعلا أميرة المدينة في كلّ شيء...
وبعدها اعتذرت زوجتي عن تصرّفاتها معي بعد أن رأت ما رأت من أميرتي وأصبحت تجمع لي بقايا صورِها وتلمّ لي شتاتَ رسائِلها لتحتفظ بها للذّكرى. وأدرك الحسّادُ الحقيقةَ، حقيقةَ أميرتي، وتعرفوا على جمالِها وعلى ما تتحلّى به من صفات عالية، فاعتذروا لي واعتذروا لها. وأخذ سكان المدينة يتسابقون للفوز بها، يتسابقون إلى ناديها علّهم يحضوْن بابتسامة منها. وأصبح النّادي يعجّ بالنّاس شبابا وأطفالا وكهولا، كلُّهم يتمنّوْن ودَّها والتّقرُّبَ إليها حتّى يملؤوا عيونهم بحسنِها ويستمتِعوا بحديثها ويتسلّموا منها المشعلَ، وكانت اللّوحاتُ الفنّيّةُ، وكان الشّعرُ وكانت القصّة وكانت البحوثُ وكان الغناءُ والطّرب وكان المسرحُ وكانت المهرجاناتُ. وصفّقت المدينة لحبيبتي طويلا، وكنت أرقص لتصفيقهم، وكانت زوجتي تكاد تلتهمها بعينيها إعجابا بها، وارتمت بين أحضاني باكيةً بكاءَ الفرح هذه المرّةَ لا بكاء الحزن والخوف. وكنت أكاد أفيض غِبطةً...
فهل عرفتم أحبّتي قمَري، ملاكي الصّغير، أميرتي الحسناء؟ إنّها كليوبترا صلابةً واختِيالا، وبلقيسُ جمالا وثراءً، ونفرتيتي أنفةً وكبرياءً، وعائشةُ عفافا وطُهرا، وعلّيسةُ ذكاءً وفطنةً...
فكيف أواجه فراقَها وحدي؟ وكيف أتخلّى عنها لمن لا يصون الحُبَّ ولا يرعى الودَّ والإخلاصَ؟ وكيف أجمع بقاياها وحدي؟ وألثُم قصائدَها وحدي؟ وكيف أقاوم سيفَ الزّمانِ وحدي؟ وكيف أهدم عُشَّ الحُبِّ بيدي؟ وكيف أنسلخُ عن ذكرياتي؟ وهل تستقيمُ الحياةُ لصفصافةٍ اجتُثّت جذورُها؟ كُنت أتساءل، وكنت أبكي لقسوة الأسئلة على قلبي، وكنت أحيانا تجدني مع قول الشّاعر: "يس الفيل" حينما رأى حبيبتَه شرعت تهدم عُشّ الذّكريات:
لا تهدِميه فعُمري ساكِنٌ فيه
وفرحةُ القلبِ تحيا في نواحيه
لا تهدميه فأيّامُ الهوى عبَرتْ
بنا إليه وغنّت في لياليهِ
هذي الحجارةُ كم حنَّت لموعِدِنا
وكم أحاطتْ بمهدِ الحُبِّ تحميهِ
وكم تراءتْ على مِرآتِها صُورٌ
للحُسنِ يخضرُّ في أبهى مَعانِيه
كُنّا وكانت زُهورُ الحُبِّ في يَدِنا
تنمو ونحن بها نختالُ في تيهِ
هنا جلسنا، هنا كانت أريكَتُنا
تذوبُ شوقا لما كنّا نُغنّيه
هنا هنا وهنا يا ألفَ أُغنيةٍ
قولوا لخادمِ هذا البيتِ يُبقيه

وأنتم يا أحبّتي هل تعرفون دموع المساجد لياليَ الأعياد؟ وهل تعرفون دموع الثّريّات؟ دموع الرّياحين؟ دموع العذارى؟ دموع اليتامى؟ لو كنتم تعرفون كلَّ ذلك لَصرختُم مثلي، مثل المجانين: "كلُّ الوجوه بعد وجه أميرتي الصّغيرة نحاسٌ وحجرٌ...".
أحاول أن لا أصدّقَ أنّ الصّدأ بدأ يدبّ إلى سيفي، وأنّ أميرتي السّاحرة ستُبعِدُني عنها، وأنّ سيفَ الزّمان لا يُقهَرُ، وأنّ الجبينَ المسافرَ في بحار عيني سيُبحر... أحاول أن أخدعَ نفسي، أن أوهمَها بأنّني باقٍ على الرّكح ثابتا، أن أكذبَ عليها، أن أجدَ أعذارا ولو واهيةً لأهرَبَ من نفسي، من الحقيقة المرّة فلا أستطيع، لأنّ الحقيقةَ تظلّ حقيقةً تنهشني، تأكل قلبي، تُلهب أعصابي كما تُلهِبُ السّياطُ ظهرَ المقهور، فأصرخ في جنون: لا لن أهربَ عن وجه أميرتي مهما حاول الحُسّادُ أن يُبعدوني عنها، أن يُوهموني أنّها غانيةٌ، والغواني يغُرُّهنّ الثّناءُ، وأنّهنّ لا يَرعيْن عهدا ولا يتقيّدنَ بميثاق. نعم كنت أصرخ وأقول: أميرتي ليست كبقيّة النّساء، إنّها من معدنٍ نادر الوجود، ولن أتخلّى عنها، وسأوصي أبنائي بعد موتي أن ينقشوا اسمها على قبري بأحرفٍ من نور...
فهل أدركتم أحبّتي أميرتي الحسناء التي عُلِّقتُها شابّا وعايشتُها زمنا، وحاولتُ طلاقها كهلا فلم أُفلِحْ؟ لقد وُلدت في كبدي وتغذّت من قلبي ونمت في أضلعي وأينعت في مدينتي...
سامح اللّه حبيبتي "اللّجنة الثّقافيّة" ما أكثرَ نفعَها وما ألذَّ وِصالَها. ولكنّ طلباتِها عديدة وباهضة الثّمن بالنّسبة لي وحدي...

الهادي عمران
                                                                                         (حمّام الأغزاز)
مجلّة الفكر: عدد:7. السّنة: 30. أفريل 1985 ص 99.
تحقيق: مزار بن حسن