25 nov. 2016

عام البابور

عام البابور



"البابور" كلمة تُطلقُ في تونس على الباخرة أو المركب البُخاريّ (Vapeur) وقد دخلت هذه الكلمة إلى اللّهجة التّونسيّة منذ بداية انتشار استخدام المحرّكات البخاريّة في التّنقّل البحريّ في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر. فالتّونسيّون عرفوا أغنية الشّيخ الحرّازي: "بابور هزّ رقيّة" وأغنية "قدّك بابور.. صالحة" وغيرها من الاستعمالات في اللّغة اليوميّة.

وفي حمّام الأغزاز ما زال النّاسُ يُؤرّخون بعام "البابور"، أي عام غرق "البابور"، نظرًا لما ارتبط به من أحداث وحكايات تتناقلها الألسُنُ إلى اليوم. ويعتقدُ الكثيرون خَطأً أنّ "البابور" قد تكسّر في حمّام الأغزاز، ولكنّ البحثَ التّاريخيّ يُؤكِّدُ خلافَ ذلك.

فالباخرة المقصودة هنا هي الباخرة الإيطاليّة "Ancona" المخصَّصة لنقل الرّكّاب والبضائع، وقد خرجت من ميناء "مسّينا Messina" بإيطاليا يوم 6 نوفمبر 1915 مُتّجهةً إلى نيويورك وعلى متنها 525 بين مسافرين وأفراد الطّاقم. وفي اليوم الموالي (7 نوفمبر في حدود منتصف النّهار)، وصلت إلى نقطة "Méridien greenvich" الواقعة بين تونس وجزيرة سردينيا الإيطاليّة، فاعترضتها غوّاصتان نمساويّتان وأطلقتا عليها قذائف مدفعيّة ممّا جعلها تغرق بعد وقتٍ قصير. أمّا الرّكّاب فقد غرق منهم 269 ونجا 256 بعد أن تمكّنوا من ركوب قوارب النّجاة، وتوزّعوا على موانئ بنزرت وحلق الوادي ورادس وزمبرة وسيدي داود.

وقد كانت حادثة "Ancona" من بين الأسباب التي جعلت إيطاليا بعد ذلك تخرجُ من حيادِها في الحرب العالميّة الأولى وتلتحق بالوفاق الثّلاثيّ (فرنسا- بريطانيا- روسيا) ضد ألمانيا وحلفائها، بعد أن استنكر العالمُ كُلُّه هذا الاعتداء على المدنيّين العُزّل.

بعد أكثر من أسبوعيْن من هذه الحادثة، وبالتّحديد في ليلة الخامس والعشرين من نوفمبر (1915)، وبينما كان أهلُ حمّام الأغزاز مُبتهِجينَ بثلاث حفلاتِ زفاف في ليلة واحدة، جاء الخبرُ بأنّ البحرَ قذفَ السّلعَ التي كانت على متن "بابور Ancona" الغريق على امتداد الشّاطئ من الهواريّة إلى سيدي منصور. فتركَ النّاسُ الحفلةَ وهبّوا جميعًا لالتقاط ما يقذفه البحرُ. ولم يبقَ بالبلدة إلاّ النّساء والعِرسان والعرائس ومَن لا يقدر على الذّهاب.

وتُضيفُ الرّوايات الشّفويّةُ أنّ الحاج عليّ بن الحاج عمر ذهب إلى ولدَيْه العريسيْن (عمران واِمْحَمّد) وإلى العريس الثّالث (وهو مُحمّد بن حسن بن الحاج رحومة زوجُ ابنةِ أخيه) وقال لهم جميعًا: "النّساء ما همش هاربين، أما السّلعة باش تهرب عليكم، امشيوا لقّطو مع النّاس".

جمع النّاسُ ما استطاعوا مِن السّلع والبضائع. وكانت مُتنوّعة: "صابون- فرينة- حلويّات- شكلاطة- خمور- زبدة- أجبان...". وعندما سمعت السّلطة المحلّيّة بالخبر، أمرت أعوانَها بتجميع ما تبقّى من سلعٍ، ثمّ أعلنت عن بيعِها بالمزاد، فكانت من نصيب التّاجر الحاج خميّس تنبان، الذي باعَ الكيسَ من "الفرينة" بـ 17 فرنكا (مع العلم أنّ ثمن المرجع من الأرض الفلاحيّة السّقويّة آنذاك هو في حدود 200 فرنك).

أمّا الطّرائف التي صاحبت حدثَ "البابور" فهي كثيرة منها:

-        الشّكلاطة التي قذفها البحر كانت مُبلّلةً فوضعتها إحدى النّسوة على سطح الدّار حتّى تجفّ بحرارة الشّمس، فذابت وجرت عبر "الميزاب".
-        أحد الرّجال وجدَ برميلا خشبيّا كبيرًا من نبيذ العنب، فشرب منه حتّى سكر ونام في مكانِه، وعندما أفاق لم يجدْ شيئا ليحملَه إلى أهلِه.
-        حكاية "الفرينة" التي لم يعرفْها النّاسُ إلاّ عندما أكلت منها الأنعام، فهي صحيحة، لكنّها لم تقعْ في عام "البابور" بل وقعت في أكتوبر من سنة 1911 عند غرقِ مركب "الجرابة" الذي سأخصّص له مقالا مستقلاّ في وقت لاحق. مع العلم أنّ معظم سكّان البلاد التّونسيّة آنذاك لا يعرفون "الفرينة" البيضاء المرحيّة بالآلات الحديثة إلاّ عند العائلات الأوروبيّة وبعض العائلات التّونسيّة الميسورة.
مزار بن حسن

المصادر:
الأرشيف الوطنيّ التّونسيّ
روايات شفويّة
جرائد فرنسيّة (نوفمبر 1915)
http://transpressnz.blogspot.com/2013/12/steamer-ancona-1915.html

23 août 2016

حمّام الأغزاز: البلدة التي تُقاوِمُ التّهميشَ بالثّقافة

على هامش "الخيمة الصّيفيّة للصّورة والتّعبيرة الفنّيّة بحمّام الأغزاز"

حمّام الأغزاز: البلدة التي تُقاوِمُ التّهميشَ بالثّقافة

مزار بن حسن



في سنة 1949 كان هناك صحفيٌّ تونسيٌّ ، اسمُهُ "محمّد قدّاس"، وهو مراسلٌ متجوِّل كلّفتهُ جريدة "تونس" لصاحبها زين العابدين السّنوسيّ في ذلك الوقت بالقيام بجولة في الوطن القبليّ وكتابة تقارير يوميّة ملخِّصًا ما شاهده من أوضاع وأحوال. وكانَ من بين الأماكن التي زارها وكتب في شأنها "حمّام الأغزاز" في أقصى الشّمال الشّرقيّ من الوطن القبليّ. ويبدو أنّ هذا الصّحفيَّ لم يكن يعرفُ تلك القرية قبل ترحالِه إليها وتجوالِه فيها. فعُنصُر المفاجأة والاستغراب كان مفهومًا بين سطورِ مقالِهِ. يقول هذا المراسِلُ مُحاوِلا تقريبَ ما رآهُ إلى ذهنِ القارئِ:

"حمام الأغزاز: [في ذلك المكان] جاء المهندس- مثل كلّ عام- يقيس الأرض ويتحرّك أمام النّاس ويتهامس القوم: "هاهي الدولة ستقيم لنا مكتبا"، ومثل كلّ عام لم يُفتح المكتب، وإنما هي مظاهرات يبرّرون بها المجابي ويُطمّعون بها النّاسَ تغريرا بالثقة. فلا مدرسة ولا مستشفى ولا طريق معبّدة توصل إلى القرية ولا سيّارات نظاميّة تبلغ المسافرين وتوصل الرّسائل. والسّيّارات لا تصل إلا إذا كانت مشمَّرة تسير على عجلات عالية لتصعد الصّخور وتهبط الحفر، فالسّير على الأقدام وعلى الدّوابّ أسلمُ من السّير على الدّرّاجة. وبعد هذا فلا نور كهربائيًّا ولا قنواتِ الماء يجري فيها ويسيل للشّاربين إلا الآبار.

والقرية على ثلاثة أميال من مدينة قليبية وتكوّن الرّأس المُشير إلى المشرق من هذا الشّمال التّونسيّ، تقع مواجِهة لجزيرة "بنتالريّة" على الطّرف الخارج من المملكة التّونسيّة.
وهي على أرض صخريّة، ونفس بناءاتها صخريّة وكثير منها تاريخيّ عتيق، فأرضها المخدومة المحياة صغيرة المساحة بين البحر وقليبية. إلا أنّ أهلها ذوو حزم وعزم وعمل مبارك في الزّراعة، فعلى صغرها تصدّر 150 طنا من الكاكويّة التي هي فاكهة لا تُزرع بغيرها من ترابنا، وإنما تُستجلب من الخارج. وتصدر من الكرويّة 600 طن، ومن الفلفل 500 طن، وفيها زراعات كثيرة أخرى، ناهيك أنها تصدر من الدلاع والبطيخ 2000 طن، مع أن سكانها لا يزيدون عن 3500 نسمة وإنما مضايقات اليوم ترزح الناس بعد أن كانت أيام الاشتغال في الحرب الأخيرة قد ضاعت البناءات 70 في المئة وزادت الآبار 80 في المئة، مع أن السمك الصخري خمسة أمتار ولا بد من نقرها بالمنقار" (1).

المفارقة

المفارقةُ العجيبةُ التي سكنتْ فكرَ هذا الصّحفيّ وعقلَهُ آنذاك هي التّالية: كيف لهذه القرية الصّغيرة بأراضيها المحدودة وموقعها الجغرافيّ الضّيّق وكثرةِ صُخورِها وصعوبةِ النّفاذِ إليها وقلّةِ عددِ سكّانِها، أن تخرُجَ منها كلُّ هذه الخيرات؟ وفي الجانبِ المقابل: كيف لهذه القريةِ السّاحرة المعطاء أنْ تُحرَمَ من التّنمية وهي أحقُّ المُدُنِ بها؟؟

وفي الحقيقة، فإنّ هذا التّساؤلَ الطّبيعيّ والبديهيّ ما زالَ إلى اليوم يتردَّدُ ويتكرَّرُ على لِسانِ كُلِّ مَنْ يدخُلُ حمّام الأغزاز ويكتشفها أوَّلَ مرَّةٍ. وقد قرأتُ في الأيّام الأولى للثّورة التّونسيّة تدوينةً على الفيسبوك لأحد هؤلاء المستكشفين لحمّام الأغزاز يقولُ فيها ما معناه:

ارتبطت الثّورة التّونسية لدينا ولدى معظم المتابعين للشّأن الوطنيّ التّونسيّ بالحركة الشعبيّة والاحتجاجيّة التي انطلقت من الجهات الدّاخليّة للبلاد (سيدي بوزيد- القصرين خاصة) باعتبارها جهات محرومة من معظم حقوقها الاقتصادية والاجتماعية طوال فترات الأنظمة السّياسية السّابقة، فهي جهات مهمَّشة لأنّ الحكّامَ على مرِّ تاريخ تونس المعاصر أهملوا المناطق الدّاخلية لصالح المناطق السّاحليّة. لكنّ هذه الفكرة السّائدة سرعان ما تتلاشى إذا ما علمنا أنّ هناك كثيرا من المناطق المسمّاة "محظوظة" ليست بالضّرورة كذلك، إذ نجد في داخلها أماكن مهمَّشة بدورها، ونذكر من أهمّ الأمثلة على ذلك حمام الأغزاز من ولاية نابل السّاحلية...

فعلا، لم تكن مسألة التّنمية في حمام الأغزاز مطروحة في تاريخنا البعيد، فقد ارتبط اسم البلدة في المنطقة تاريخيّا- على صِغرِ مساحتِها الجغرافيّة المحدودة بالبحر من جهتيْن- بالخيرات الفلاحيّة بكافّة أنواعِها التي تنتجها بفضل أراضيها الخصبة وخبرات سكّانها في النّشاط الزراعيّ بكافة أنواعه وخاصة زراعة الأشجار المثمرة، وكذلك بفضل قدرتهم على التّأقلم مع ما تفرضه المنطقة من تغيّرات على صعيد الاحتياجات الغذائيّة. وهو ما قرأناه في مقال الصّحفيّ التّونسيّ "محمّد قدّاس" سنة 1949. لكنْ في فترة الاستعمار الفرنسيّ، تضرّرت الجهة كثيرا بسبب استنزاف ثرواتها من طرف المعمّرين وبسبب استغلال التّجّار والمرابين الأجانب. فكان ذلك دافعا لتأجيج المشاعر الوطنيّة، حيث ساهم أبناء حمام الأغزاز مساهمةً كبيرةً في الحركة الوطنيّة خاصّة في ما يُعرف بأحداث جانفي 1952، وهو ما يؤكّد أيضا ترسّخ التّقاليد الحقوقية والوطنيّة في الجهة وعراقتها.

بعد الاستقلال لم تشهد حمام الأغزاز أيّ شكل من أشكال التّنمية، خاصة بعد تراجع القطاع الفلاحيّ بسبب ضيق الأراضي وتشتّت الملكيّة ونقص مياه الرّيّ، فباستثناء مؤسّسات إداريّة حكوميّة (بلديّة- معتمديّة- مركز للحرس الوطنيّ- إدارة فرعيّة للفلاحة- معهد ثانويّ...) لا توجد مشاريع اقتصاديّة توفّر حقّ الإنسان في الشّغل والعيش الكريم، وهو ما يفسّر التجاء معظم أبناء المنطقة إلى العمل خارج البلدة وفي المهن الحكوميّة وخاصّة في مجال التّعليم.

وقد تسبّب غياب المشاريع التنمويّة والاقتصاديّة في الجهة في تهميش المنطقة وعدم الاعتناء بالبنية الأساسيّة من طرقات وشبكات تطهير ومياه وغيرها... وذلك رغم أن الجهة تختص بمميزات طبيعية وجماليّة وتاريخيّة وثقافيّة (جمال الشاطئ- وفرة الغابات- المرتفعات المطلّة على البحر- السّبخة- آثار كركوان البونيّة ودمنة الرّومانيّة...) ممّا يجعلها مرشَّحة أكثر من غيرها لأن تَحظى بالعناية من زاوية سياحيّة أساسًا.

المقاومة الثّقافيّة

وإنّ المتتبّع لتاريخ حمام الأغزاز منذ الاستقلال خاصة، يلاحظ بروز جيل جديد في السّتّينات من القرن الماضي من خرّيجي المعاهد والجامعات التونسية القليلة آنذاك والذين تلقَّوْا تعليمهم الابتدائيّ العصريّ في حمام الأغزاز بعيد تأسيس المدرسة العربية- الفرنسية المختلطة بها في 19 جانفي 1952. حيث انطلق أبناء هذا الجيل في استظهار طاقاته الجديدة وأفكاره الطليعيّة وأصرّوا على استكمال المسيرة التنمويّة بروح جديدة ومختلفة، فكانوا مبدعين في الميدان الاجتماعي والثّقافي خاصّة، فأسّسوا اللجنة الثقافية المحليّة وفرقة المسرح في السّتّينات، وجمعيّة "فتح" للكرة الطائرة في السّبعينات، ومهرجان "كركوان الثقافي" في الثّمانينات. وتمكّنوا بوسائلهم البسيطة من الإشعاع جهويّا ووطنيّا ومن التّعريف بالبلدة والمساهمة في إثراء المشهد الثّقافي التّونسي بكثير من الشّعراء والفنّانين والكتّاب والمبدعين. وقد مثّل تأسيس البلدية في بداية الثّمانينات حافزا (في بدايته خاصة) لكثير من الطّاقات والكفاءات الجديدة ولغرس تقاليد المواطنة والعمل المدنيّ والثّقافيّ لدى السّكّان.

وقد كان للتّنوّعِ الفكريِّ والسّياسيّ الذي ميّز البلاد التونسية في الثّمانينات أثرُهُ في حمّام الأغزاز، حيث عجّت البلدة بالأفكار الشّبابيّة المتحمِّسة لشتَّى التوجُّهات السّياسيّة والفكريّة، وكانت، رغم حالة الاستبداد السّياسيّ وهيمنة الحزب الواحد آنذاك ورغم ما آلت إليه البلديّة في التّسعينات من تدهور وعجز ماليّ واقتصاديّ، رافدا أساسيا من روافد العمل الثقافي الذي لم ينقطع حتّى في أحلك فترات الهيمنة والقمع (في آخر عهد بورقيبة وعهد بن علي) حيث تمكّن شباب حمّام الأغزاز من مواصلة الإشعاع خاصة في مجالاتٍ مُتنوِّعةٍ: - الكرة الطّائرة الشاطئيّة التي تألقوا فيها على المستويات الوطنيّة والدوليّة، وثمرة ذلك اليوم هو ترشّح الثّنائيّ شعيب بن الحاج صالح وعرفات النّاصر الذي مثّل تونس في مسابقات الألعاب الأولمبيّة التي أُقيمت بريو دي جانيرو. - والسّينما: من خلال نادي السّينمائيين الهواة وما أنتجوه من أفلام وأشرطة نالت كلّ الاحترام والتّقدير، وخاصة ما كان من نجاح وتألّق بعد الثّورة، وهو ما تمّ تتويجه بما ناله فيلم "الأرواح المحترقة" لجهاد بن سليمان سنة 2011 وفيلم "ولد الفقر" لنضال بن حسين سنة (2012) من جوائز وطنيّة ودوليّة مشرّفة. وهما فيلمان يُلخِّصانِ ما يشعرُ به الشّابّ الغُزّيّ (نسبةً إلى حمّام الأغزاز) من أنَّه طرفٌ فاعِلٌ في تونس وغيورٌ على القيم الوطنيّة وعلى إرثِه الطّبيعيّ والحضاريّ والثّقافيّ.


(1)               جريدة "تونس" لصاحبها: زين العابدين السنوسي، السنة 13: السلسلة الجديدة: العدد: 54. الأربعاء 13 جويلية 1949 (17 رمضان 1368) ركن: "أنباء القطر" ص2.

8 août 2016

أصل عائلة بوخزنة

أصل عائلة بوخزنة



في مثل هذا اليوم (8 أوت) من سنة 1886 تمَّ العثور على "خزنة" (كنز) في سبخة "بوزيد" بحمّام الأغزاز. وقد كان الصّبيّ مُحمّد الأصغر بن عليّ بن مُحمّد بن حسين يرعى بقرًا له هناك ويلعب مع صبيةٍ آخرين كما يقول البحثُ الذي أُجرِيَ آنذاك: "وإنّهم وجدوا شيئا مثل "المخفيّة" به دراهم ذهبًا وخاتم وزوج مقايس (سوار) وزوج ونايس (أقراط)..." وغيرها من الحليّ. وفي البداية لم يعرفْ هؤلاء الأطفال قيمةَ تلك الأشياء الثّمينة فلعبوا بها وزيّنوا بها رؤوسَ الأبقار. لكن عندما وصلَ الخبرُ إلى أهل البلدة أعلموا شيخ قليبية فحجز المصوغ وقام بتحقيق في الغرض لا نعرفُ بالتّحديد إلى أيِّ نتيجةٍ وصلَ. ومنذ ذلك التّاريخ أُطلقَ على الصّبيّ محمّد الأصغر بن حسين لقبُ "بوخزنة" رغم أنّه لم ينتفِعْ منها بشيء.
كان "بوخزنة" ذا بشرةٍ بيضاء تميلُ إلى الحُمرةِ، وكان معروفًا بـ "النّوّارة" التي يضعُها دائمًا على أُذنِه. كما كان أيضا عاشقا للصّيد والبيزرة.
لمعرفة نسَبِه انظُر الشّجرة المصاحبة.

مزار بن حسن

المصادر:
-        دفتر العدل عمر بو عفيف (الأرشيف الوطنيّ التّونسيّ)
-        مصادر شفويّة.

17 juil. 2016

زيارة بورقيبية الأخيرة لحمّام الأغزاز: 17 جوان 1986



زيارة بورقيبية الأخيرة لحمّام الأغزاز

الذّكرى الثّلاثون

التّاريخ: 17 جوان 1986

مصدر الصّورة: أرشيف معتمديّة حمّام الأغزاز

8 juil. 2016

ثورة صاحب "القشابيّة": وفاءً لروح شهيد قليبية "عبد العزيز الخوجة"

ثورةُ صاحب "القشابيّة":
وفاءً لِرُوحِ شهيدِ قليبية "عبد العزيز الخوجة"

مزار بن حسن



في ليلةٍ من ليالي رمضان 2016، كنَّا مجموعةً قليلةَ العددِ نجوسُ خلالَ ديارِ قليبية باحِثينَ عن منزلِ شهيد قليبية "عبد العزيز الخوجة". دَلفنا إلى "المدينة العربيّ" من جهة زاوية "سيدي بن عيسى" نتَّبِعُ خُطانا إلى حيثُ ستقودُنا. وفي غيابِ التّنوير العموميّ بالمكان، كانَ اللّيلُ قدْ ناء بكلكلِه وأظلمَ علينا إلاّ مِنْ ثلاثةِ أنوارٍ كانت لنا هُدًى ورحمَةً: نورُ صومعةِ مسجد "سيدي بن عيسى" الذي تركناهُ خلفنا، ونورُ صومعةِ جامع "سيدي بوضاوي" الذي يلوحُ أمامَنا(1) ونورُ قمرِ رمضانَ الذي تأخَّرَ طُلوعُهُ إلى حينِ مجيئنا.  ومِن حُسنِ حظِّنا فقد اهتديْنا إلى المنزِلِ بعدَ أنْ تراءتْ لنا حركةُ النّاسِ أمامَ بابِه مِن بعيدٍ.

لم أكُنْ أتصوَّرُ أنَّ سقيفةَ الدّارِ الضَّيِّقةَ ستُسفِرُ عن مثلِ هذا الفضاء الفسيحِ والمعمار التّقليديّ الرّائع الذي يُكوِّنُه. السّقيفةُ يليها مباشرةً رواقٌ رحْبٌ مُزركَشٌ بإتقانٍ يُفضي إلى ساحةِ الدّار التي تفتحُ إليها ثلاثةُ بيوتٍ، لكلِّ بيتٍ بابٌ وشُبّاكانِ. وقد أحاطَ بكلِّ بابِ وشُبّاكٍ منها إطارٌ مِن الخزفِ النّابليّ الجميل. استقبلَنا أعضاءُ جمعيّة "أسبيس" المُشرِفُونَ على تنظيمِ الحفلِ بحفاوةٍ وجعلونا في مكانٍ أماميٍّ ورحّبوا بنا بما نحنُ أهلُهُ وزيادةٌ مِن كرَمِ الضِّيافةِ وحُسنِ القبولِ والوِفادةِ.

في الرّكن الشّرقيّ من فناء الدّار انتصبت فرقة موسيسقيّة من الأطفال والشّباب بقيادة الأستاذ سليم الهوّاريّ. وكانت تعزف ألحانًا لمقاماتٍ موسيقيّةٍ تونسيّة، وقد امتزجت هذه الألحانُ بتراتيل صلاة التّراويح المنبعثة من صومعة جامع "سيدي بوضاوي" المذكور. وفي الرّكن الغربيّ المقابل جلست بناتُ الشّهيد عبد العزيز الخوجة. على خُطوطِ وُجوهِهِنَّ مزيجٌ نادِرٌ مِنْ ملامِحَ تُركيّةٍ وعربيّةٍ لمْ يُفْلِح الزَّمَنُ المُتقادِمُ في إخفائِها بين خُطوطِ التّجاعيدِ. أجسادٌ مُثْقَلَةٌ بِما حُمِّلْنَهُ مِن ذاكرةٍ جريحةٍ تَسَعُ الأرضَ والسَّماءَ، ومِنْ أتعابِ طُفولةٍ قاسِيةٍ عِشْنَها في غيابِ أبٍ عاطِفٍ قتَلتْهُ يدُ الغدْرِ في آخِرٍ يومٍ مِنْ شهرِ جانفي 1952، فتركتْ في النُّفوسِ لوعةً لا تنتَهِي.

المداخلة الأولى التي ألقاها الأستاذ محمّد الصّادق بن عبد اللّطيف كان كافِيةً لنزول الدّمعِ مِدْرارًا مِنْ أعيُنِ بناتِ الشّهيدِ وجريانِه بين ثنايا تلك التّجاعيدِ. فقد تحدّث فيها بعاطفةٍ قويّة عن ملحمتِه النّضاليّة وتضحياتِه مِن أجل الوطن والاستقلال وإيمانِه القويّ بحزب الدّستور ودفاعِه المستميتِ عن زعيمِه "الحبيب بورقيبة" وصولا إلى حادِثةِ اغتِيالِه مع زميلِه في الكفاح "حمّادي الغربيّ". ثمّ تلت ذلك مداخلات: الأستاذ محمّد البلاجيّ والسّيّدة نعيمة الخوجة التّونسيّ ابنة الشّهيد والشّيخ حمدة الانقليز والسّيّد امحمّد الدّريديّ قائد الكشّافة بقليبية. وقد كانتْ كُلُّها مُجْمِعةً على وطنيّة الشّهيد ومحبَّتِه للبلادِ والعِباد، وللأرض التي نشأ بها ونذر فيها نفسَهُ مِن أجلِها. كما أجمعتْ أيضا على الفراغِ الهائلِ الذي أحدثَهُ غيابُهُ المُفاجِئُ بين أهلِهِ وناسِه وذَويهِ إلى اليوم.

جمعيّة "أسبيس" Aspis بقليبية

جمعيّة "أسبيس" التي تكوّنت حديثا في قليبية، يعودُ فضلُ تأسيسِها إلى نُخبةٍ مِن مُثقَّفي المدينة الذينَ حرَّكتْهُم الحميّةُ الوطنيّةُ والاعتزازُ بالانتِماءِ إلى هذه المدينة السّاحليّة التّونسيّةِ الزّاخِرةِ بالتّاريخِ والحضارةِ والجمالِ، والذينَ عَزَّ عليهِمْ أنْ يتمكَّنَ مِنها الإهمالُ والنّسيانُ واللاّمبالاةُ فيجعَلَها غُفلاً عن التّعريفِ. وقد اختارت الجمعيّةُ عن طريقِ مُؤسِّسيها (نجلاء بوريال عضو المجلس الوطنيّ التّأسيسيّ- محمّد البلاجي- محمّد الصّادق بن عبد اللّطيف وخليل البلاجي وغيرهم...) أنْ يكونَ مِن أهدافِها الأساسيّةِ التّعريفُ بقليبية وخصائصِها الثّقافيّة والتّاريخيّة والحضاريّة، وهو ما تَدُلُّ عليه التّسميةُ التي أُطلِقتْ على الجمعيّة. فـ"أسبيس" هو اللّفظُ الذي  سمّى به الإغريقُ قليبية منذ عهودٍ قديمةٍ. وهي كلمةٌ تعني في ما تعنيه باليونانيّة: "الدِّرْع" أو "المِجَنّ" (Bouclier) على اعتبارِ ما يُميّز قليبية وقلعتَها التّاريخيّة من مَنَعَةٍ وشُموخٍ على امتدادِ الأحقابِ والعصور. وقد سمَّى القائد اليونانيّ "أغاتوكول سَرَقُوسَةَ" (Syracuse Agathocle de) القلعةَ يومَ احتِلالِها باسم "أسبيس"(2). أمّا تسمية "قليبية" فهي محاكاة عربيّة لكلمة "كلوبيا" اللاّتينيّة (Clypea  أو  Clupea) التي تعني أيضا "الدّرع"، وقد ظهرت هذه التّسمية إلى الوجود في العهد الرّومانيّ البيزنطيّ (533- 647 م).

اختارت جمعيّة "أسبيس" أن تبدأ أنشطتَها الصّيفيّةَ بِتكريم الشّهيد عبد العزيز الخوجة تحت عنوان: "لمسة وفاء إلى روح شهيد قليبية عبد العزيز الخوجة". وهو النّشاط الثّاني لها منذ تأسيسِها. فقد قامت يوم الأحد 27 مارس الماضي بتكريم الشّاعر نور الدّين صمّود والموسيقار الشّابّ وائل صمّود. كما اختارت أن يكونَ هذا اللّقاءُ في منزل الشّهيد بقليبية تكريما لروحِه ووفاءً لنضالِه مِن أجل الحرّيّة والاستقلال.

سيرة صاحب "القشابيّة"

لم أكُن أعرِفُ شخصيّةَ صاحِبِ الدّارِ قبل قُدومي إلى تظاهرة التّكريم إلاّ خبَرًا ونقلا عن كبارِ السّنّ. وقد سألتُ منذُ سنواتٍ بعضَ الأخباريّين الذين يحفظون أخبار الحركة الوطنيّة في جهة قليبية عن شخصيّة عبد العزيز (شهر عزيّز) الخوجة فارْتسمتْ لها في ذهني صورةٌ غيرُ مُكتمِلةٍ. وأهمُّ ما عَلِقَ بذهني آنذاك هو أنّه كان مسؤولا عن التّنسيق بين المقاومين والمناضلين بين قليبية وحمّام الأغزاز وأزمور والشّرف وغيرها من المدن والقرى المُحيطة بقليبية، وأنّه كان معروفا أيضا بـ"قشابيّتِه الحنايشيّة"، أي قشابيّة ذات خطوط سوداء وبيضاء، وكانت قُبّعتُها مائِلةً دائِمًا. فهي لِباسُه الذي يُميِّزُه من النّاس في المظاهرات والاجتماعات والاحتفالات وغيرها...

كما لم تَكُن رحلةُ العودةِ إلى ذاكرةِ شهيد قليبية "عبد العزيز الخوجة" أمرا هيِّنا كما كُنّا نتوقّع. فبرغمِ الأثرِ العظيمِ الذي خلَّفتْهُ مسيرتُه النّضاليّةُ على أرضِ قليبية، وبرغمِ الدّويّ الهائلِ الذي تركَتهُ في أرجاءِ سمائها، وبِرغمِ المحبّة التي تطوي لهُ عليها صُدورُ أهاليها إلى اليوم، فإنَّ عمليّة التّوثيق وجمع المعلومات في شأنه كانت عسيرَةً، لقلّتِها أوّلا ولتفرُّقِها وتشتُّتِها بين صفحاتِ الجرائدِ القديمة ووثائق الأرشيف الوطنيّ، وبين الرّصيد الشّفويّ الذي ما زال عالِقًا بذاكِرةِ العائلةِ أو بحافِظةِ بعضِ كبارِ السّنّ في قليبية مِن مُعاصِريه.

أمّا الصُّحُفُ فلم نعثُرْ له فيها على أثرٍ إلاّ ما كان مُوَثَّقًا على صفحاتِ جريدة "الحرّيّة" (ثمّ "لواء الحرّيّة" في ما بعدُ) التي كان الدّستوريّون ينشرون فيها أخبارَهم وتحرُّكاتِهم بعد منعِ جريدتِهم الرّسميّة "العمل"، وتحديدًا في المُدّة الفاصلة بين سنتيْ 1948 و1951. وهما في الحقيقةِ مقالانِ يتيمانِ: الأوّلُ بتاريخ يوم الأحد 1 أكتوبر 1950 يحمل عنوان: "لجنة الدّفاع عن مصالح السّكّان بقليبية" وفيه إعلان عن تشكُّل هذه اللّجنة برئاسة صاحِبنا السّيّد "عزيّز بن عليّ الخوجة".

والمقالُ الثّاني مؤرَّخ في يوم الأحد 22 أكتوبر 1950 يتعلّق بتعريف تلك اللّجنة وبيانِ أهدافِها ومهامِّها. وهي أهدافٌ ومهامُّ تجمع بين الصّحّيّ والاجتماعيّ والتّعليميّ والأخلاقيّ... في مزيجٍ عفويّ وطريفٍ. فهي تسعى إلى "التّخفيف عمّا يلحق الفقراءَ من تعاسة المرض ومكافحته بما تقدر عليه من سلاحٍ حتّى يتمكَّنَ الفقيرُ المسكينُ من مقاومةِ المرضِ بما تُسعِفُه به لجنةُ الدِّفاعِ عن مصالح السّكّان". كما تسعى في جُملةِ ما تسعى إليه أيضا إلى "تولّي الدّفاع بقدر الإمكان عن بلدةِ قليبية، ولِتُنبِّه أولي الأمرِ بوجوبِ نظافتِها وقطعِ بيع الخمر للمُسلمين !! والاهتمام بتعليم الأطفال وإلفات نظر إدارة العلوم والمعارف إلى الحالة السّيّئة التي عليها ناشئةُ قليبية، وإلى وجوبِ نقلِ الصّبية المزاولين للتّعليم إلى محلاّتٍ صالِحةٍ من النّاحية الصّحّيّة ونقلهم من تلك السّقائف والقراجات ولما يلحق الأهالي من تعدّيات المُعتدين وتعسُّف المُتعسِّفين".

ولم يكن النّضالُ ذا طابعٍ اجتماعيّ وخيريٍّ فحسب، بل كان نضالا وطنيًّا متكامِلا. ففي المظاهرة المشهودة التي شهدتها قليبية كغيرِها من المدن في كافّة أنحاء تونسَ يوم 24 جانفي 1952 احتِجاجًا على اعتقالِ الزُّعماء، كان صاحِبُ "القشابيّة" في مقدِّمتِها مع "حمّادي الغربيّ" يقودانِها من "الحومة الحمراء" إلى "المراح" بوسط قليبية لتجتمِعَ هناك مع مظاهرة حمّام الأغزاز ومظاهرة أزمور وغيرهما. ثمّ خطب فيهم القائدُ الثّالثُ "صادق مجدوبة" خطابا حمّاسِيًّا ألهبَ مشاعِرَ المتظاهرينَ، ففاضَ طوفانُ النّاسِ على الحواجِز التي وضعها الجندرمة أمام مركزِهم فحطّموها وهجموا عليهم بالحجارة والسّلاح الذي لم تحسُبْ له السّلطة الفرنسيّةُ آنذاكَ أيَّ حسابٍ نتيجةَ العمل السّرّيّ الذي يقودُه حزبُ الدّستور.

نهاية المسيرة

أمّا الأرشيفُ الوطنيّ التّونسيُّ فقد حفظ لنا وثيقةً (3) يبدو أنّها مقتطفةٌ من التّقرير الذي أعدّتهُ لجنة "الطّاهر بن عمّار" حول الفظاعات التي ارتكبها جُندُ اللّفيف الأجنبيّ التّابع للجيش الفرنسيّ في الوطن القبليّ بعد قمعِه لثورة التّحرير الوطنيّة (18 جانفي 1952) وتحديدا للمظاهرة المذكورة. وتروي هذه الوثيقةُ تفاصيلَ استشهاد بطلَيْ الثّورة في قليبية بدون منازعٍ عبد العزيز بن عليّ الخوجة وحمّادي بن حسين الغربيّ، بعد اعتقالِهما معا يوم 31 جانفي 1952.

تقول الوثيقة: تمّ إيقافُ عزيّز بن عليّ الخوجة (38 عاما وأب لسبعة أطفال) في منزله يوم 31 جانفي 1952 من قِبل عونَيْ الشّرطة "ساسي" و"ع- ش". أمّا العون "ساسي" فقد قال له: "تعالَ معنا، الكاهية يُريدُك". وفي الطّريق سُمِعَ وهو يقول له أيضا: "لقد قدّمتَ ضدّي شِكايةً منذُ مُدّةٍ، وفي هذه المرّة سنتدبَّرُ أمرَكَ". وبعد ذلك اُقتِيدَ إلى مركز الشّرطة، ثمّ رآه بعضُ النّاسِ وهو خارِجٌ منه صحبةَ حمّادي بن حسين الغربيّ (26 عاما). وقد قادهما قائد الشّرطة "بامبينا" Bambina إلى مركز الجندرمة حيث تعرّضا إلى العنف والإهانة. وبعد ساعةٍ تمّ إخراجُهما وقد بدتْ على وجهيْهِما حالةٌ من الذّهول والرّعب. أركبَهما عون جندرمة على سيّارة وجلس حذوهما، أمّا "بامبينا" فقد قادَ بنفسِه السّيّارةَ إلى مكانٍ خارج البلد يُسمّى "دُوّيرة الإمام" حيثُ تمّت عمليّةُ قتل الشّهيديْن. وقد شاهدَ أحدُ المُزارِعين هناك عمليّةَ اغتيال الخوجة ثمّ ولّى هارِبًا.

كما تُضيف الوثيقةُ أيضا أنّ عون الأمن "فارينا" Farina قد حملَ جُثّتَيْ الشّهيديْن على شاحِنةٍ قادَها بنفسِه إلى مركز الشّرطة، وهي شاحنة على ملك أحد سكّان الهواريّة. ثمّ خاطب شيخ قليبية قائلا: "هناك جُثّتانِ عليكَ نقلُهُما وتسليمُهما إلى ذويهِما لدفنِهما". وقد أوصاهُ بالصّمتِ التّامّ.

غيرَ أنَّ الصّمتَ عن الجريمةِ لم يَدُمْ طويلاً، فسرعان ما سَرَتْ ثورةُ التّحرير في كلِّ أنحاءِ تونِسَ، وأتتْ أُكلَها بعد عامَيْن أو ثلاثةٍ وأسفرت عن الاستقلال الدّاخليّ فالاستقلال التّامّ. وبقِيَ عبد العزيز الخوجة وحمّادي الغربيّ رَمْزَيْن للوطنيّة الصّادقة والتّضحية من أجل الأرض والعِرض في قليبية. وهاهي قليبية تَعودُ اليومَ إلى ذاكرتِها وتُحيِي ذِكرَى عبد العزيز الخوجة بعد أربعةٍ وسِتِّينَ عامًا من استِشهادِه.
______________________
(1): يُنسَب هذا المسجد إلى سيدي أبي بكر الضّاوي، وهو صاحب الزّاوية الموجودة هناك. وكان هذا الجامع يُسمّى حسب الوثائق التي تبيّن أحباسَه "جامع السِّرّ". (عبد الرّحمان بن عبد اللّطيف: صفحات من تاريخ قليبية، ص 39- 40 و45)
(2): مجلّة "أسبيس" (دار الشّباب قليبية) العدد الأوّل سنة 2004. (صفحة التّقديم).
(3): الأرشيف الوطنيّ التّونسيّ: الحركة الوطنيّة 56/3.

11 juin 2016

سُؤالٌ مُحيِّرٌ في حمّام الأغزاز: هل تجوزُ الثّقافةُ في المقابر؟

سُؤالٌ مُحيِّرٌ في حمّام الأغزاز:

هل تجوزُ الثّقافةُ في المقابر؟




مزار بن حسن

قد يبدو التّساؤُلُ في نَظَرِ القارِئِ غريبًا وطريفًا، فما العلاقةُ بين الثّقافةِ والمقابر عامّةً؟ وهل يحتاجُ المُثقَّف إلى الأمواتِ حتّى ينشُرَ الفعلَ الثّقافيَّ؟ أو إلى المؤسّسة الفقهيّة حتّى يبحثَ عن مشروعيّة دينيّة للثّقافة؟ !

لكنَّ السُّؤالَ قَدْ طُرحَ فعلاً في المدّةِ الأخيرة بحمّام الأغزاز بطريقةٍ ما. وذلك بعد أنْ قرّرَ ثُلّةٌ من الشّباب المُثقَّف هناكَ أن يستَهلَّ نشاطَهُ الصّيفيَّ بحملةِ تنظيفٍ كُبرى في كامِلِ أرجاءِ البلدةِ، وكانَ مُستقَرُّ الرّأيِ عندهم أنْ تبدَأَ الحملةُ بمقبرةِ البلدة، على أن تتّسِعَ دائرَةُ الحملةِ لِتَشملَ في ما بعدُ الطّرُقاتِ والأحياءَ والشّواطِئَ حتّى تتهيَّأَ للموسم السّياحيّ الصّيفيّ. جمعَ هؤلاءِ الشّبابُ أنفُسَهم بغيرِ الطُّرقِ التّقليديّة، بل عبر شبكات التّواصل الاجتماعيّ، وخاصّةً عبر صفحة "اتّحاد مُتساكِني حيّ الازدهار بحمّام الأغزاز" على الفيسبوك، التي لم يَمْضِ على تأسيسِها إلاّ بضعةُ أشهُرٍ. ومُؤسِّستُها هي "عبير ميدة" إحدى الفاعلات الاجتماعيّات في في أكبر أحياء حمّام الأغزاز على الإطلاق. وسرعان ما هبَّ الشّبابُ من كلِّ فجٍّ عميقٍ مُلبِّينَ النِّداء.

جمعيّة "أوغوز" (Oghouz) الثّقافيّة وجمعيّات أخرى:

انضمّت إلى الحملة جمعيّة شبابيّة ثقافيّة حديثة العهدِ بالتّأسيس في البلدة، اتّخذت لنفسِها اسم جمعيّة "أوغوز" الثّقافيّة. وحسنًا ما فعلت في ذلك، فـ"أوغوز" هو الاسمُ القديم لقبيلة من قبائل الأتراك التي انحدر منها مُؤسِّس حمّام الأغزاز في النّصف الثّاني من القرن السّابع عشر. والعربُ أطلقوا على هذه القبيلة اسم "الغُزّ". وهم مذكورون في كتب التّاريخ المشرقيّة والمغربيّة، واشتهروا بمهارتِهم في الحروب، فاتّخذهم العربُ في جيوشهم ومعارِكهم واستفادَ من تقنياتهم الحربيّة. فقد ذكر الجاحِظ التّرك في كتاباتِه منذ القرن الثّالث للهجرة، بل خصّص لهم رسالةً كامِلةً من مجموعِ رسائله سمّاها: "رسالة في مناقب التّرك وعامّةِ جند الخلافة"[1] تعدّد خصالَهم وأفضالَهم على المؤسّسة العسكريّة في عهد الدّولة العبّاسيّة. كما خصّصَ لهم "ابنُ فضلان" في القرن الرّابعِ للهجرةِ فصلا كاملا في رحلتِه إلى حوض الفولغا سمّاه: "في بلادِ التّرك الغُزّيّة" وقد اتّخذه لأجل وصفِ مساكنهم وعاداتِهم ومعتقداتِهم وغير ذلك في مواطنهم شمالي بحر خوارزم  (أو بحر الآرال)[2].

والنّسبةُ إلى القبيلة "غُزِّيٌّ" و"غُزِّيَّة" وجمعُها "أغزاز". وكُلُّ من يُنسَب إلى حمّام الأغزاز اليومَ، أو إلى عائلة من العائلات المنحدرة من هذه القبيلة في تونسَ يُسمَّى "غُزِّيًّا". مثل أغزاز القيروان (ومنهم مُحمّد الغُزّيّ الشّاعر وعبد اللّطيف الغُزّيّ المغنّي الشّعبيّ...) وأغزاز "بني حسّان" وغيرهم...
من أجل ذلك اختارت هذه الجمعيّة أن يكونَ اسمُها مُتجذِّرًا في هُويّتِه، وأن يكونَ مِن أهدافِها توثيقُ التّراث الثّقافيّ بحمّام الأغزاز والمحافظةُ عليه كمحافظتِهم على أضرِحةِ آبائهم وأجدادِهم بمقبرة "سِتّي مريم[3]"، وتنشيطُ المدينة وتأطيرُ المواهب الفنّيّة الشّبابيّة هناك. وقد اتّخذت لتحقيقِ ذلكَ وسائلَ غيرَ تقليديّة كالجمع بين مختلف الإبداعات الفنّيّة في لقاء "مجاز2" (شعر- قصّة- ابتكارات يدويّة- رسم- موسيقى...) أو تنظيم إفطار جماعيّ على شاطئ البحر مصحوبا بأجواء احتفاليّة موسيقيّة وغنائيّة أو تنظيف المقبرة...
ولم تكنْ "أوغوز" وحدَها على السّاحة الثّقافيّة الشّبابيّة، ففي الأثناء أيضا تأسّست جمعيّة "عشتار" التي تُقارِبُ "أوغوز" في أهدافِها ووسائلِها وتتّخِذُ صبغةً أدبيَّةً وفكريَّةً. وقد شاركت هي أيضا في تنشيط المدينة بتزيين الأرصفة والجدران بالمدرسة الابتدائيّة وطريق الشّاطئ. كما تأسّست مجموعة شبابيّة فيسبوكيّة أخرى أطلقت على نفسِها اسم: "فريق يصنع جيلاً آخرَ" أو (SMAG : Squad making another generation) وقد شارك هذا الفريقُ جمعيّتيْ "أوغوز" و"عشتار" في بعضِ أنشطتِهما.

وعلى كُلِّ حالٍ، هم شُبّانٌ من التّلاميذ والطّلبة والعاطلين عن العمل، من البنات والأولاد، أتَوْا إلى مقبرةِ "سِتّي مريم" بحمّام الأغزاز بملابِسهم الفضفاضة والضّيّقة وبـ"الدجين" الممزَّق، وبشعورِهم المُرسَلة والمُجعَّدة وبعُقودِهمْ المُعلَّقةِ على صدورِهمْ، وبمعاوِلهم ورُفوشِهم وفؤوسِهم ومساحِيهمْ... يقتلعونَ ما أنبتَهُ تعاقُبُ الفُصولِ واختِلافُ اللّيلِ والنّهارِ من الحشائش والشّوائب، ويُنظّفون ما تراكَمَ من غبار السّنين ومن سائرِ المقذوفاتِ الإنسانيّة وغيرِ الإنسانيّة على قُبورِ آبائهمْ وأجدادِهم، ويطلون بالجيرِ ونحوِه ما تفسّخَ من تلك القبورِ ومِن جُدرانِ سُورِ المقبرةِ.

قد كانت الحملةُ استثنائيَّةً بكلّ المقاييس. فهي مرفوقةٌ بآلاتِ التّصوير والهواتف الذّكيّة وغيرها من الأجهزة الرّقميّة الموصولة مباشرةً بالانترنت ومواقع التّواصل الاجتماعيّ. ورأينا ورأى النّاسُ من خلال المتابعة العينيّة والمتابعة الافتراضيّة بناتٍ وأولادًا يلتقطون صور "السّلفي" بوجوهٍ ضاحِكةٍ وثُغورٍ باسِمَةٍ مع أقارِبهم وأعِزَّائِهمْ الرّاقدينَ تحتَ الثَّرَى مُنذُ مُدَدٍ مُتفاوتةٍ. ثمّ ينشرونَ تلك الصّورَ في الفيسبوك ويشاركونَ أصدقاءَهم الافتراضيّين في مُشاهدَتِها واستحسانِها، إذ لا تخلو مُعظَمُها من لمساتٍ فنّيّةٍ وجماليّةٍ. بل ذهبوا أبعَدَ مِنْ ذلك وصوّروا مشاهِدَ دِعائيَّةً في ما يُشبه الأفلامَ القصيرَةَ، باعتِبارِ أنَّ نسبةً كبيرةً منهم ينتمونَ إلى "نادي السّينمائيّين الهواة بحمّام الأغزاز" المعروف بجوائزِه الوطنيّة والعالميّة. وقد تابعَ النّاسُ باستِظرافٍ ذلك الفيديو الذي يُصوِّر أحَد هؤلاء الشّبّان واقِفا أمام الكاميرا مُمسِكًا بيدَيْه مِقصًّا كبيرًا لتقليم الأشجار ووراءَه بقيَّةُ رُفقائِه واقِفينَ كالأصنامِ، وكُلُّ واحِدٍ منهم قابِضٌ على آلتِه بيدِه لكنْ بدونِ حراكٍ، حتّى إذا ضُربَ المِقصُّ انطلقَ الجميعُ في العمل كما تنطلقُ مشاهِدُ تصوير الأفلام في السّينما.

أحياءُ أم أموات؟

حملةُ نظافةٍ في المقبرةِ، لم يغِبْ عنها الفنُّ بكافّةِ أشكالِه: الغناء والتّصوير الفوتوغرافي والسّينمائيّ وبعض الحركات الرّاقصة... مشاهِدُ لمْ نعهدْها من قبلُ أعجبتْ كثيرًا من النّاسِ. ورُبّما لِأجلِ ذلك أيضا أقضّتْ مضاجِعَ المُحافِظينَ وأثارتْ امتِعاضَهم وغَضَبَهُمْ. فبدأت شِبهُ حملةٍ مُضادَّةٍ في الفيسبوك تُعبِّرُ عن استِياءِ النّاسِ مِن بعضِ ما صاحبَ حملةَ التّنظيفِ من مشاهِدَ غيرِ لائقةٍ بالمقامِ في نظَرِهم. وتصيَّدوا لهم بعضَ الصّور والمشاهِدِ التي أفلتَ فيها الزِّمامُ الكابِحُ وانطلقَ بها الجِماحُ أكثرَ من اللُّزومِ.
فمِن ذلك صورَةُ أحدِ الشّباب وهو يَعتلِي ضَريحًا مِن الأضرِحةِ ليُقلِّمَ بالمِحشِّ شجرةً تُظلِّلُ ذلكَ الضّريحَ. وقد احتجّوا بتلك الصّورةِ ليُؤكِّدوا أنّ ذلك يُعدُّ اعتِداءً وتطاوُلا على الميِّتِ. وعلّقوا على ما رأوْهُ بقولِهم: "إنّ للمقابِرِ حُرمَةً وهيبَةً، شأنُها في ذلك شأنُ المساجِد". كما قال بعضُهم لائِما مُتحسِّرًا: "إنّ هذا يتعارَضُ مع آدابِ زيارة القبور". فردَّ عليهِ أحدُ مُنظِّمي الحملةِ قائِلاً: "نحنُ لم نأتِ لنَزُورَها بل لِنُنظِّفَها، حتّى إذا زُرْتُموها أنتم بعدَ ذلك وجدتُموها نظيفةً". وهي إجابةٌ في غاية اللّباقةِ والذّكاء، إذ تفضَحُ بطريقةٍ ضِمنيّةٍ كلَّ خِطابٍ مُتستِّرٍ بالدّين لا يضعُ تنظيفَ قُبورِ أسلافِه من بين أولويّاتِه، بل لا يهتمّ بالقبور وآدابِ زيارتِها إلاّ إذا رأى غيرَهُ قد اجتهدَ في تنظيفِها وهو قاعِدٌ عنها.
لعلّه مِنَ الطّبيعيّ أن يكونَ للمقبرةِ هيبةٌ وحُرمةٌ كغيرها من الأماكن المقدَّسة في كلّ مكانٍ في العالمِ وفي كلِّ دينٍ ومذهبٍ وثقافةٍ. ولنا في ثقافتِنا العربيّة خيرُ دليلٍ على ذلك، وهو قولُ أبي العلاء المعرّيّ في قصيدة "غيْرُ مُجْدٍ في مِلَّتِي واِعتِقادِي"[4] مُخاطِبا الإنسانَ الذي يمُرُّ بجانِب القبور:

خَفِّفِ  الوَطْءَ  ما  أَظُنُّ  أَدِيمَ  الــ
ــأرْضِ  إلاّ  مِنْ  هذهِ  الأجْسَـادِ
وَقَبِيحٌ  بِنَا  وإنْ  قَدُمَ  العَهْــــــــــ
ــــــدُ   هَوَانُ  الآباءِ  والأجْــدَادِ
سِرْ إنْ اِسْطَعْتَ في الهواءِ رُوَيْدًا
لا  اِخْـتِــيَالاً  على  رُفاتِ  العِبادِ

ولكنْ، هلْ ينطبقُ كلامُ المعرّيّ على ما وقع بمقبرة "ستّي مريم" بحمّام الأغزاز؟ لا أعتقد ذلك. إذْ لو قُدِّرتْ حياةٌ أخرى له وعودةٌ إلى الدّنيا، ثمّ شاهدَ احتفالَ الشّباب بالحياة والفنّ بين الأمواتِ لأعجبَه ذلك، ولَاعتبرَ وطْأَهُم للقُبورِ خفيفًا وسيْرَهم عليها تحليقًا في الفضاء. وكذلك حالُ الآباء والأجداد الذين سبقونا إلى الدّار الأخرى في حمّام الأغزاز. إنّهم مُستبشرون وضاحِكون، وأكثرُ مِن ذلكَ، فهم مُتعاوِنونَ مع أبنائهم وأحفادِهم لا يبخلون عليهم بالمُساعدةِ كُلّما اِحتاجوا إليها. فكثيرٌ من الأمواتِ أحياءٌ عند أهلِهمْ يُرْزَقون، وكثيرٌ من الأحياءِ أمواتٌ يعيشونَ بينَنا.

ونختِمُ كلامَنا هذا بما كتبَهُ أحدُ المُتطوِّعينَ الشّباب على الفيسبوك في معرِضِ ردِّه على تعليقات و"تنبيرات" بعضِ أصحابِ النّفوسِ المريضةِ من المُحافِظين الذين لامُوهمْ على الغناء والرّقص واعتلاء القبور وغيرِ ذلك مِمّا يُخِلُّ بآدابِ زيارة القبور عندهم. وكانَ رَدًّا مُؤثِّرًا ومُعبِّرًا:

"كُنت عند قبر أمّي أنظِّف و أُدندن بعضَ الألحان وأحكي لِمَنْ كان حاضرا معي عن بعض طرائفي معها، وكُنتُ أستعين بالقبر للجلوس لكي أستطيعَ إعادةَ كتابةِ المشهَد بالحبر و"فحّجتُ" على القبر لِأصِلَ إلى بعض النّواحي ولِيكونَ جسدي مرتاحا أكثرَ. و كانت أمِّي لا ترى مانعا في ذلك حيث كان صوتها يرنُّ في أُذُني قائلةً: "إيجا من هنا ما يسالش... هاذي ما نظفتهاش بالباهي... أيا ما تبداش تبلفط كي عادتك... وينك؟ إشبيك ليوم برك جيت؟؟ جاب ربّي فمّا حملة ولا راك تجي كان في العيد !! " و أجزم بأن أمّي فرحة أكثر من العديد الذين لم يأتِهم أهلُهم و ذَوُوهم، وتتباهى بقدوم ابنها. فشكرا لجمعية "أوغوز" وشكرا لإتحاد متساكني حي الإزدهار  بحمّام الأغزاز. أُمّي تقرئكم السّلام".


[1]  رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السّلام محمّد هارون، القاهرة 1964 مكتبة الخانجي، ج1 ص 5.
[2]  رحلة ابن فضلان (في حوار الحضارات والأديان) الفقيه ابن فضلان ورحلتُه إلى حوض الفولغا، تحقيق أحمد خالد، تونس 2009 منشورات زخارف ط1. ص 179.
[3]  يُذكر هنا أنّ مقبرة ستّي مريم ومقامُها بحمّام الأغزاز موثَّق من قبل المعهد الوطنيّ للتّراث منذ سنوات تحت عدد: 016/ 122.  وهو معلم قديم لكنْ لم يتمَّ الحفاظُ عليه كسائر الآثار الموجودة بالجهة. انظُر: Ministère de la culture et de la jeunesse et des loisirs, Institut national du patrimoine : Carte nationale des sites archéologiques et des monuments historiques, Kélibia 016, p 80. : http://www.inp.rnrt.tn/Carte_archeo/pdf/Fr/016KelibiaFr.pdf
[4]  ديوان "سقط الزّند" لأبي العلاء المعرّيّ. بيروت، 1957، دار صادر للطّباعة والنّشر، ص 7.