عام البابور
"البابور"
كلمة تُطلقُ في تونس على الباخرة أو المركب البُخاريّ (Vapeur)
وقد دخلت هذه الكلمة إلى اللّهجة التّونسيّة منذ بداية انتشار استخدام المحرّكات
البخاريّة في التّنقّل البحريّ في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر. فالتّونسيّون
عرفوا أغنية الشّيخ الحرّازي: "بابور هزّ رقيّة" وأغنية "قدّك
بابور.. صالحة" وغيرها من الاستعمالات في اللّغة اليوميّة.
وفي حمّام الأغزاز ما زال النّاسُ يُؤرّخون بعام "البابور"، أي
عام غرق "البابور"، نظرًا لما ارتبط به من أحداث وحكايات تتناقلها الألسُنُ
إلى اليوم. ويعتقدُ الكثيرون خَطأً أنّ "البابور" قد تكسّر في حمّام
الأغزاز، ولكنّ البحثَ التّاريخيّ يُؤكِّدُ خلافَ ذلك.
فالباخرة المقصودة هنا هي الباخرة الإيطاليّة "Ancona" المخصَّصة لنقل الرّكّاب
والبضائع، وقد خرجت من ميناء "مسّينا Messina"
بإيطاليا يوم 6 نوفمبر 1915 مُتّجهةً إلى نيويورك وعلى متنها 525 بين مسافرين وأفراد
الطّاقم. وفي اليوم الموالي (7 نوفمبر في حدود منتصف النّهار)، وصلت إلى نقطة
"Méridien greenvich"
الواقعة بين تونس وجزيرة سردينيا الإيطاليّة، فاعترضتها غوّاصتان نمساويّتان وأطلقتا
عليها قذائف مدفعيّة ممّا جعلها تغرق بعد وقتٍ قصير. أمّا الرّكّاب فقد غرق منهم 269
ونجا 256 بعد أن تمكّنوا من ركوب قوارب النّجاة، وتوزّعوا على موانئ بنزرت وحلق
الوادي ورادس وزمبرة وسيدي داود.
وقد كانت حادثة "Ancona"
من بين الأسباب التي جعلت إيطاليا بعد ذلك تخرجُ من حيادِها في الحرب العالميّة
الأولى وتلتحق بالوفاق الثّلاثيّ (فرنسا- بريطانيا- روسيا) ضد ألمانيا وحلفائها،
بعد أن استنكر العالمُ كُلُّه هذا الاعتداء على المدنيّين العُزّل.
بعد أكثر من أسبوعيْن من هذه الحادثة، وبالتّحديد في ليلة الخامس والعشرين
من نوفمبر (1915)، وبينما كان أهلُ حمّام الأغزاز مُبتهِجينَ بثلاث حفلاتِ زفاف في
ليلة واحدة، جاء الخبرُ بأنّ البحرَ قذفَ السّلعَ التي كانت على متن "بابور Ancona" الغريق على امتداد الشّاطئ
من الهواريّة إلى سيدي منصور. فتركَ النّاسُ الحفلةَ وهبّوا جميعًا لالتقاط ما
يقذفه البحرُ. ولم يبقَ بالبلدة إلاّ النّساء والعِرسان والعرائس ومَن لا يقدر على
الذّهاب.
وتُضيفُ الرّوايات الشّفويّةُ أنّ الحاج عليّ بن الحاج عمر ذهب إلى ولدَيْه
العريسيْن (عمران واِمْحَمّد) وإلى العريس الثّالث (وهو مُحمّد بن حسن بن الحاج
رحومة زوجُ ابنةِ أخيه) وقال لهم جميعًا: "النّساء ما همش هاربين، أما
السّلعة باش تهرب عليكم، امشيوا لقّطو مع النّاس".
جمع النّاسُ ما استطاعوا مِن السّلع والبضائع. وكانت مُتنوّعة:
"صابون- فرينة- حلويّات- شكلاطة- خمور- زبدة- أجبان...". وعندما سمعت
السّلطة المحلّيّة بالخبر، أمرت أعوانَها بتجميع ما تبقّى من سلعٍ، ثمّ أعلنت عن
بيعِها بالمزاد، فكانت من نصيب التّاجر الحاج خميّس تنبان، الذي باعَ الكيسَ من
"الفرينة" بـ 17 فرنكا (مع العلم أنّ ثمن المرجع من الأرض الفلاحيّة
السّقويّة آنذاك هو في حدود 200 فرنك).
أمّا الطّرائف التي صاحبت حدثَ "البابور" فهي كثيرة منها:
-
الشّكلاطة التي قذفها
البحر كانت مُبلّلةً فوضعتها إحدى النّسوة على سطح الدّار حتّى تجفّ بحرارة
الشّمس، فذابت وجرت عبر "الميزاب".
-
أحد الرّجال وجدَ
برميلا خشبيّا كبيرًا من نبيذ العنب، فشرب منه حتّى سكر ونام في مكانِه، وعندما
أفاق لم يجدْ شيئا ليحملَه إلى أهلِه.
-
حكاية
"الفرينة" التي لم يعرفْها النّاسُ إلاّ عندما أكلت منها الأنعام، فهي
صحيحة، لكنّها لم تقعْ في عام "البابور" بل وقعت في أكتوبر من سنة 1911
عند غرقِ مركب "الجرابة" الذي سأخصّص له مقالا مستقلاّ في وقت لاحق. مع
العلم أنّ معظم سكّان البلاد التّونسيّة آنذاك لا يعرفون "الفرينة"
البيضاء المرحيّة بالآلات الحديثة إلاّ عند العائلات الأوروبيّة وبعض العائلات
التّونسيّة الميسورة.
مزار بن حسن
المصادر:
الأرشيف
الوطنيّ التّونسيّ
روايات
شفويّة
جرائد
فرنسيّة (نوفمبر 1915)
http://transpressnz.blogspot.com/2013/12/steamer-ancona-1915.html