معنى
الحياة في حمّام الأغزاز
في تسعينيّات القرن الماضي، أرادَ أحَدُ كبارِ
التُّجّارِ ورِجالِ الأعمالِ التّونسيّينَ المُقيمينَ
بتونسَ العاصمة تَمْضِيةَ فصلِ الصّيفِ في إحْدَى قُرَى
الوطنِ القبليِّ التّونسيّ، فذهبَ إلى أحَدِ مُوَظَّفيه المُستَخدَمِينَ عنده في
شركتِه التّجاريّة، وقدْ كانَ يعرِفُه غُزّيًّا (من حمّام الأغزاز)، إذْ كانَ في
كلِّ سنةٍ يأتيه بِـ»عُولَتِه» مِن «الفلفل المرحيّ» و»الدّرع» (Sorgho) من هناك، فسأله عن قريةٍ ساحِليّةٍ هادِئةٍ بعيدةٍ عنِ التّلوّث
بكافّةِ أشكالِه الهوائيّة والبصريّة والسّمعيّة، فقال له: لِمَ لا تستأجِرُ منزلا
بحمّام الأغزاز؟ فهي المكانُ الذي ستَجِد فيه حتْما ضالَّتَكَ. بعد مُفاهمةٍ،
استقرَّ الرّأيُ على منزِلٍ بحمّام الأغزاز يتوسّطُ الحُقولَ ويُشرِفُ على البحر
من الشّرق وعلى المناطق الزّراعيّة الخضراء من الغرب.
قال الغُزّيّ- والعُهدَةُ عليه-: في اللّيلة الأولى التي
قضاها التّاجرُ هناك، وبينما كانت العائلةُ في نومٍ عميقٍ، فجْأةً استيْقظ الجميعُ
هَلِعِينَ على صَوتٍ صارخٍ كأنّه صاعِقةٌ مِنَ السّماء، لم يفهموا شيئا في
البداية. حتّى كلْبُهم فوجِئَ بانطلاق الصّعقةِ المُدَوِّيّةِ، فدخلَ في حالةٍ
نُباحٍ هستيريّةٍ. لكنّهم سرعانَ ما عرفوا أنّه صوتُ نهيقِ حِمارٍ كانَ مُوثَقًا
بِحبْلٍ إلى سورِ المنزلِ، وبين السّورِ والشّبّاك الخلفيّ للمنزل مسافةٌ قصيرةٌ
جِدّا. لعلَّ صاحِبَهُ أهملَهُ وتَرَكَهُ هناكَ للجوعِ والعطشِ وصقيعِ اللّيلِ،
بعد يومٍ كامِلٍ منَ الأشغالِ الفلاحيّةِ الشّاقّةِ.
ثمّ إنَّ كلبَهم لمّا جعل ينبحُ ويَعوِي مِن شِدَّةِ
الذُّعْر، أحدثَ بَلْبَلَةً وضجيجًا في المنازلِ والحقولِ المُجاوِرة، فجاوبَتْهُ
الكِلابُ الأخرى بنبيحِها وعُوائِها أيضًا. تمامًا كما جاوبتْ الأحمِرةُ غيرُ
البعيدةِ عن المكانِ أخاها الحمارَ كأنّها تُعبِّرُ عن تضامُنِها ومُساندَتِها.
وهكذا باتُوا ليلَتَهم بين نُباحٍ ونَهِيقٍ وغيرِ ذلك من صياحِ الدِّيكةِ وأصواتٍ
أخرى لمْ يَتوَصَّلُوا إلى معرِفتِها. ولَمْ يَذُوقٌوا للنَّومِ طَعْمًا.
مع انبلاجِ الخيوطِ الأولى مِنَ الصّباحِ، كانَ كلُّ
شيءٍ قد خَمَدَ وسَكَنَ. وظنَّ التّاجِرُ وعائلتُه أنّها فُرصَتُهُمْ الآنَ
للنّومِ بعد ليلةٍ مِنَ المعاركِ والمُواجهات. لكنْ هيهاتَ !...
الفزَّاعة الصَّامِدة:
قَرْعٌ على الحديدِ والصّفيح وصياحُ أطفالٍ وتصفيرٌ دون
انقطاعٍ. صِبْيةٌ يصرُخونَ ويصيحونَ وأعْيُنُهم في السّماء: «حاح حاح... !» وكُلُّ
واحِدٍ منهُم ماسِكٌ بيدِه اليُسْرَى «قصدريّةً» فارغةً أو «طاسةً» كبيرة ينهالُ
عليها ضرْبا بِعَصًا في يدِه اليُمْنَى فتُحدِثُ أصواتًا مُنفِّرَةً. كما رأى
مجموعةً من بقايا عُلب «البيرة» و»القازوز» وما شابهها مِن الأوعية القديمة قدْ
شُكَّتْ في خيطٍ طويلٍ مُرْسَلٍ فوقَ رُؤوسِ الزّرْعِ حتّى صارتْ كالقِلادَةِ، ثمّ
أمسكَ أحَدُ هؤلاء الصِّبيةِ الخيطَ مِنْ طَرفِهِ فجَعلَ يَرُجُّه ويُحرِّكُه في
كلّ اتّجاهٍ ليُحدِثَ صليلاً وجلجلةً وَ»شكْشكَةً» تَصُمُّ الآذانَ. ثمَّ لمَحَ من
بعيدٍ هيأةَ إنسانٍ مُعلَّقٍ فوقَ السّنابِلِ يلبَسُ لباسًا رَثًّا مُمَزَّقًا،
وفهِمَ حينَئِذٍ أنّها فزَّاعَةٌ اتّخذَها هؤلاءِ لطَرْدِ الطّيور، وأنَّ جميعَ ما
سمِعَه مِنْ أصواتٍ حادَّةٍ وجميعَ ما رآهُ في الحُقولِ مِنْ أدواتٍ للتّطبيلِ
والتّزميرِ وفُنونِ الضّوضاءِ والضّجيجِ، إنّما هو في سياقِ عمليَّةِ إخافةِ تلك
الطّيورِ ومَنْعِها مِنَ الاقترابِ مِنَ المَحصولِ والأكلِ مِنهُ، وتُسمَّى هذه
العمليّة بِــ»التّحاحيّة»، وتدومُ يومًا كامِلاً مِن طُلوعِ الشّمسِ إلى
غُروبِها. لمْ يَعْرِفْ في البدايَةِ ما نَوْعُ الزّرعِ الذي يُقبِلُ عليهِ
الطّيْرُ بنَهمٍ شديدٍ، لكنَّه عندما سألَ عنهُ قيلَ له إنّه «الدّرُعْ» (Sorgho). ذاكَ الطّعامُ الشّهيُّ الذي يُقْبِلُ عليهِ هو الآخَرُ بنَهمٍ
شديدٍ ويأخُذُ مِنه كلَّ سنةٍ «عُولَتَه» عن طريقِ ذلك الغُزّيّ الذي يشتغِلُ
عندَهُ في شرِكتِه.
قال الغُزِّيّ أيضا: إنَّ هذا التّاجِرَ لمْ يُكْمِلْ
يومَه ذاكَ في حمّام الأغزاز، بل جمَعَ زادَهُ وعُدّتَه التي كان قد أتى بها قبلَ
يومٍ، وأقْسَمَ ألاّ يَبيتَ ليْلتَهُ تلكَ إلاّ في منزِلِهِ بتونِسَ. وبعدَ تلك
الحادِثةِ ظلَّ يُحدّث النّاسَ عن حمّام الأغزاز ويقولُ إنّها البلدةُ التي يصيحُ
أهلُها في النّهار وحيواناتُها في اللّيل !!
بعد سنواتٍ قليلةٍ جرتْ حكايةٌ ثانِيةٌ لا علاقةَ لها
بالأولَى في البدايةِ. ففي صائفة سنة 2003، تعرّفتُ إلى «بيير»، أحدِ السّيّاح
الكنديّين في تونسَ، وهو مُتخصِّص في الرّعاية النّفسيّة للأطفال المرْضَى في أحدِ
مستشفياتِ «مونريال» (Montréal)، وبصددِ إتمامِ رسالةِ بحثِه في الدّراساتِ المُعمَّقةِ حول علم
نفس الفنّ، وقد أتى إلى تونسَ في بِعثةٍ مِن إدارة المستشفَى. وبعد سلسلةٍ من
اللّقاءاتِ بيننا، اِكتريتُ له في حمّام الأغزاز المنزلَ نفسَه الذي اكتريْته
سابقًا لبطل الحكاية الأولى، وتركتُه هناك لقضاءِ ليلتِه قبل أن نتلاقَى في
الصّباح.
ما حدث لِـ «بيير» في ما بعد حسب روايتِه:
لم يَنَمْ «بيير» ليلتَها إلاّ ساعةً أو بعضَ ساعةٍ،
فَما إن بدأ النّومُ يُغالِبُهُ في السّاعاتِ الأولى من الفجر حتّى انطلق القَرْعُ
على القصدير والصّفيح وصياحُ الأطفال وتصفيرُهم، وصليلٌ وجلجلةٌ وَ»شكْشكَةٌ» لم
يفهمْ مأتاها في البداية، لكنّه عندما أطلّ من الشّرفة ورأى الأطفالَ وأدواتِهم،
ورأى الزّرعَ الذي لم يرَه ليلاً، فهمَ كلَّ شيْءٍ. لقد كان «بيير» على علمٍ سابقٍ
بعمليّة «التّحاحيّة» لكن على الطّريقة الكنديّة، فقد اشتغل كما أفادني لاحِقًا
أثناء دراسته الجامعيّة في جني محاصيل الفلاحة من طماطم وتفّاح وعنب وغيرها في
الرّيف الكنديّ، وقد مكّنته هذه التّجارب من رُؤية زراعة «الدّرع» الذي يُسمّى في
كندا الفرنكوفونيّة: Le millet perlé. كما رأى الطّرقَ الحديثة لتفزيع العصافير وهي الفزّاعة
الالكترونيّة: épouvantail électronique أي تلك الآلة التي تعمل بالغاز الطّبيعيّ وتُحدث كلَّ مُدّة
معلومة صوتَ انفجار كبير يفزّع العصافير الجائعة التي ترى في حبوب «الدّرع» أو
الذّرة أو غيرها وجبةً شهيّةً، وبتلك العمليّة يتمّ تأمينُ «الصّابة» من التّلف
والنّقصان بشكل ناجع.
نزل «بيير» إلى الحقل وتعرّف إلى الأطفال المُشرفين على
تأمين الصّابة بصياحهم وتطبيلِهم، ووجدَ أنّهم تلاميذ تُوكَلُ إليهم هذه المهمّةُ
أثناء العطلة الصّيفيّة، ويتقاضَوْنَ في مقابلِ عملِهم هذا أجرًا معلومًا يُعينهم
على تغطية تكاليف العودة المدرسيّة. اِلتقط معهم صورا فوتوغرافيّةً، فرديّةً
وجماعيّة، وأعطاهم الحلوى والشّكلاطة وبعضَ الهدايا التّذكاريّة، وصاح و»شكشك»
مثلهم. قال لي «بيير»: إنّ هذا الذي عشتُه مع الأطفال في أوّلِ يومٍ نزلتُ فيه
بحمّام الأغزاز هو الحياة الحقيقيّة التي لم أعُدْ أراها في كندا. إنّ النّاسَ في
«مونريال» فقدوا معنى الحياة منذ زمنٍ بعيدٍ. والطّفلُ الذي رأيتُه اليومَ في حقل
«الدّرع» قادِرٌ على إدراكِ معنى وجودِه بحكمةٍ لم يعُدْ يبلُغُها الإنسانُ
الأمريكيّ أو الأوروبّيّ اليومَ.
صراع الفلاّح والسّمسار:
رحل «بيير» بعد ذلك. قفل راجعا إلى بلدِه، واِنقطع ما
كان موصولا بيننا، إذ لم أجد عنوانَه الالكترونيّ الذي سجّلتُه في مكانٍ ما ثمّ
أضعتُه. وعندما ظهر الفيسبوك في ما بعد بحثت عنه أيّاما وليالِيَ مُتّبِعًا كلَّ
أنواع البحث الالكترونيّ الممكنة. بحثت عنه أيضا في «جوجل» و»تويتر» وغيرهما فلم
أظفرْ بطائِلٍ. بحثتُ عنه لِأُخبِرَهُ بأنّ الأطفالَ الذين أُعجِبَ بهم تعبوا
الآنَ من الصّراخِ والتّصفير، وأنّهم لم ينجحوا في مسيرتهم الدّراسيّةِ التي
صاحُوا من أجلِها في وجوه الطّير. بحثتُ عنه لِأُخبِرَهُ أنّ الصّياحَ وقرعَ
القصدير ونحوِه قد اِنقطع من حمّام الأغزاز لِتُعوِّضَهُ الفزّاعاتُ الالكترونيّة
المُفرقِعة التي يعرفها هو في كندا. بحثتُ عنه لِأخبِرَهُ أنّ مساحاتِ حقولِ
«الدّرع» تتضاءلُ سنةً بعد أخرى لتترُكَ مكانَها شيئا فشيئا للمالكين الجُدد
وللزّحف العمرانيّ والفيلات والعمارات التي يبتنيها النّاسُ لكرائِها للمصطافين
المجانين بالبحر، والتي تكسبُ كلَّ مرَّةٍ معركةً وتحتلُّ أرضًا جديدةً. بحثتُ عنه
لِأخبِرَه أنّ الفلاّحَ تحوّلَ إلى وسيطٍ عقّاريّ (سَمسار)، وأنَّ العصافيرَ لم
تعُدْ تُشكِّلُ خطرًا على «الدّرع»، وأنَّ الفزّاعاتِ الالكترونيّة لم تعُدْ
تُفزِّعُ الطّيورَ بل صارت في هيأةِ المدافِع الحربيّة يُوجِّهُها بَقَايَا الفلاّحين
نحو العدوّ الجديد كيْ تقصِفَ الاسمنتَ المُسلَّحَ و»الياجورَ» الأحمرَ في حربٍ
دونكيشوتيّةٍ ماضِيَةٍ نحو الخسارة.
ما زلتُ أبحثُ عن «بيير» إلى اليوم لِأخبِرَهُ أنّ
الحياةَ في حمّام الأغزاز تغيّرت. أصبحَ لديها مَعنًى آخرُ.
مزار بن حسن
https://ar.lemaghreb.tn/قضايا-وأراء/item/31884-مَعْنَى-الحياة-في-حمّام-الأغزاز