على هامِشِ مهرجان "ليالِي
البُرج":
الصُّعُودُ
إلى بُرجِ قليبية
الصُّعُودُ إلى بُرجِ قليبية
ليسَ بالأمرِ الهَيِّنِ كما قد يَبدُو للزَّائِرِ في البِدايةِ. فهذا الصَّرْحُ
العَظيمُ الذي تَعاقبَتْ على تَشيِيدِهِ سَواعِدُ الشُّعوبِ شَرقِيِّهَا
وغَرْبِيِّهَا، مِنْ بربرٍ وقرطاجِيّينَ ورُومانٍ وإغريقٍ ووندالٍ وعَربٍ وتُرْكٍ ...
ذاك الطَّوْدُ الشَّامِخُ الذي يَتراءَى سِحرُهُ للنَّاظِرِ من بعيدٍ، إنّما ينتصِبُ
كالتَّاجِ على رَبْوَةٍ مُحاذِيَةٍ للبحرِ يبلُغُ اِرْتِفاعُها عنهُ سبعةً
وسَبعينَ مِتْرًا. وهو اِرْتِفَاعٌ كافٍ لِجَعلِكَ تَلْهَثُ وتتوقَّفُ مِرَارًا
لِالْتِقاطِ أنفاسِكَ وإمْتاعِ ناظِرَيْكَ بِزُرْقَةِ البحرِ إذا كُنْتَ
مُتَرَجِلا. وحتَّى إذا كُنتَ رَاكِبًا سَيَّارتَكَ، فإنَّكَ لَسْتَ بِبالِغٍ
قِمَّتَهُ. لِأنَّكَ إذا وَصلتَ إلى بَوَّابةِ البُرجِ، تنقطِعُ الطَّريقُ
المُعَبَّدَةُ ويَبدَأ المَسلَكُ المُدَرَّجُ، فلا خِيارَ لك في مُواصلةِ الصُّعُودِ
إلاّ قَدَمَاكَ. وهذا هُو حالُ جميعِ القِلاعِ والحُصُون والرِّباطاتِ في كافّةِ أنحاءِ
المعمورةِ: مِن قلعةِ "حلب" إلى سورِ الصّين العظيم وهياكل جبل
"أولمب" وأهرامات مصرَ...
هذا الإشكالُ هو الذي اِعترَضَ
أيضًا لجنَةَ تنظيمِ مهرجان "لَيالِي بُرج قليبية" منذُ ثلاثِ سنواتٍ.
إذْ كيف لهم أنْ يَنْقُلُوا تَجهِيزاتِ المهرجانِ مِنْ رُكحٍ وديكُورٍ وكراسيّ
وطاولاتٍ وآلاتٍ مُوسِيقِيّةٍ ووحداتٍ صوتيّةٍ وغيرِ ذلك ممّا يقتضيه تقديمُ
العُرُوضِ المُوسيقيّةِ والمسرحيّة والسِّينمائيّة ومعارِضِ الرّسم وغيرِها... كيف
لهم أن يصعَدوا بها إلى أعلى الرّبوة؟ وقد اِجتَهدُوا في مُواجهةِ هذه المُعضلة
حتّى تَوَصَّلُوا إلى حلٍّ طَرِيفٍ وناجِعٍ في آنٍ واحِدٍ، ألا وهو اِستِخدَامُ
الدَّوابِّ المَرْكُوبة. وخَيرُ هذه الدَّوابِّ وأَسْلَمُهَا الحِمارُ. لقد
تمتَّعَ رُوّادُ "الفيسبوك" منذ أيّامٍ قليلة بمُشاهدةِ ذلك الفيديو
الذي يَظهَرُ فيه حِمارٌ وهو يَجُرُّ عَربةَ "كَرّيطة" عليهَا آلةُ
"بيانو" لِيَصعدَ بها إلى رُكحِ "ليالي البُرج" بقليبية
تحضِيرًا لعرض الأركستر السّنفونيّ التّونسيّ يوم السّبت 17 أوت الفارط.
كنتُ أنا والفنّان رؤوف قارة
نَصَّعَّدُ ربوةَ البُرجِ في عَشِيَّةِ يومِ الثّلاثاء الماضي لِأجلِ حُضُورِ
اِفتِتاحِ معرِضِ الرّسمِ الجماعيّ الذي يُشارك فيه رؤوف مع عددٍ من رَسَّامِي
قليبية (حيدود- محمد صمود- شكري بن عمر- صادق بن تركية- أورور أليسوني- مراد صمود-
عواطف ريدان- ألنكا البلاجي). وبعد الاِفتِتاحِ سيتحوَّلُ الجَميعُ إلى مُشاهدةِ
مسرحيّة كوميديّة (ولد شكون؟) لجميلة الشِّيحيّ، تلك المسرحيّة التي مَلَأت
الفيسبوك وشَغلتْ النَّاسَ، وأشبَعَهَا حُرَّاسُ الأخلاقِ العامَّةِ وسَدَنَةُ
هَياكِلِ المُقَدَّسِ شَتْمًا وثَلْبًا وتَعْرِيضًا، وقد وصلَ بهم الأمرُ إلى
شَنِّ حملةٍ فيسبوكيّة من أجلِ مُقاطعةِ المسرحيّة وإفشالِهَا وإقناعِ النَّاسِ
بعدمِ مُواكبَتِها، وقد اِعتبَرَتْ بَعضُ هذه الصَّفحاتِ الفيسبوكيّة أنَّ
"القليبيّ الحقيقيّ" قلبًا وقالِبًا لنْ يَذهَبَ لِمُشاهَدتِها، وقدْ
نَسُوا أو تَناسَوْا أنّهم بتلكَ العمليّةِ يُشْهِرُونَها مَجَانًا. وهو ما تَمَّ
بالفِعل، حيثُ أنَّ الجماهيرَ فَزِعتْ للمسرحيّةِ مِنْ كُلِّ صوبٍ وحَدْبٍ،
وتَجشَّمَ النّاسُ عَناءَ الصُّعودِ إلى البُرج، وضَحِكُوا وَلَهَوْا
واِستمتَعُوا.
ثقافةُ الإهمال:
كُنتُ أحمِلُ اِبنتي "سُلَيْمَى"
على كَتِفِي لِعدَمِ قُدرَتِها على مُواصلةِ الصُّعود، وكانَت"حْوِيتَه"
كلبَةُ رؤوف تَسْبِقُنا وكأنَّها أعظَمُ شَوْقًا مِنَّا لِرُؤيةِ البرج ومُواكبةِ
عُروضِه. لقد كانَ المُرُورُ مِن البوّابةِ الدّاخِليّة التي تَلِي سَقيفةَ
مَدخَلِ البُرجِ إلى قاعةِ العرض "L’Oratoire"،
أكثرَ صُعوبةً من الصُّعودِ على المُدَرَّجِ. بقايا الحِجارة والأتربة المُكدَّسة
هنا وهناك من جرّاء تساقُطِ ما تبقَّى من جدران الحصن البيزنطيّ الموجود داخل
أسوار البرج. حجارة ناتِئة في كلّ مكان، بعضُها مُلتَصِقٌ بالأرض، والبعضُ الآخرُ
مُتناثِرٌ. نباتاتٌ طُفيليّة وأشواك. لا يعلمُ الماشِي أينَ يَضَعُ قدَمَهُ، فإذا
سِرْتَ على التّرابِ تسَرَّبَ إلى داخِلِ حِذائِكَ، وإذا سِرْتَ على الصَّخْرِ
فإنّك لا تعلمُ هل هي صخرةٌ ثابِتةٌ أم مُتناثِرة تُوشِكُ أن تنهارَ بِكَ وتتسبّبَ
لك في كسرِ ساقِكَ. هذا وقد بدأ الظّلامُ يُرخِي سُدُولَهُ علينا، ولا وُجودَ
لمِصباحٍ واحِدٍ في ذلك الممرّ لِيَهدِيَنا إلى سَواءِ السَّبِيل، رغم أنّ لجنةَ
المهرجان طلبتْ ذلك مرارًا من المسؤولين عن ذلك المكان من إطاراتِ المعهد الوطنيّ
للتّراث، ولا حياةَ لمَنْ تُنادِي...
تَذكَّرتُ هنا نصًّا قرأتُهُ
للرّحّالة الفرنسيّ: Victor
Guérin يصِفُ فيه
حالةَ برجِ قليبية المُزرِية أثناء زيارتِه له سنة 1861، أكداسٌ من الرّدم وحُطام
البناءات المُهدَّمة، أشجار تين مهملة وهندي وأشواك، خزّانات مياه ملوّثة عشّشت
فيها الخفافيش، وقد فسّرَ ذلك بطريقةٍ فيها كثير من التّحامُل المُغرِضِ علينا،
مُعتبِرًا أنّ السببَ في هذه الحالة المُزرِية هو تَهاوُن المُسلمين "L’incurie musulmane" وغياب عقليّة الصّيانة والتّعهّد لديهم. (*)
لكنَّنا رغم كلّ هذا لا نستطيع تكذيب هذا الرّحّالة في ما وصفَهُ، لأنّنا نعلم
جيّدًا أنّ التَّهاوُنَ واللاّمبالاة ما زالا إلى حدِّ اليومِ ثقافةً يوميّةً في
تونسَ، بل سِياسةً مُنَظَّمةً تنتهِجُها السُّلط المُشرِفةُ على تُراثِنا
وثقافَتِنا، لأنّ حالةَ البرج وجميع معالم قليبية وآثار تونسَ عامّةً لا تختلفُ
كثيرًا عن الحالة التي وصفها Guérin في كتابِه قبل أكثرَ من قرنٍ ونصف من
الزّمن.
يَتَساءلُ رؤوف حائِرًا، وهو لا
يعرِفُ أنّنا نَنوِي تكريمَهُ أثناء الاِفتتاح بطريقةٍ مُفاجِئةٍ، فيقُولُ:
"كيف سيتمكَّن الشّاعِرُ نور الدّين صمّود والرّسّامُ مُحمّد صمّود مِن
الصُّعودِ إلى هذا المكان وقد بَلَغَ بِهما العُمرُ والصّحّة ما بَلَغَاه، وقد
أكَّدَا لي أنّهما سيكونانِ مِن الحاضِرِين؟" وفي الحقيقةِ، فإنّنا
وَجدناهُما جالِسَيْنِ في الصّفِّ الأماميّ، وقد وَصلا إلى مَكانِ الاِفتِتاحِ على
أقدامِهِمَا قبلنا. لقد أثبتَا للجميعِ أنّهُما بَطَلانِ حقيقيَّانِ، لِأنّهما
آمنا إيمانًا راسِخًا بعظمة البُرج وحضارتِهِ وثقافتِهِ. لقدْ بُنِيَ البُرجُ
بقُوّةِ الإيمانِ، ولَنْ يَبْقَى شَامِخًا إلاّ بقُوّةِ الإيمانِ.
طرد الأرواح الشّرّيرة:
يُفيدُنا الأستاذ عادل تنبان في
كتابه: "قليبية عبر التّاريخ"، وفي معرِضِ حديثِه عن الأثاثِ الجنائِزيّ
الذي يُوضَعُ في القبورِ البُونيّة الموجودة في "تازغران"
و"كركوان" وغيرها من مناطقِ الجهة، أنّ هذه القبورَ تحتوي داخِلَها على أطباق
وصحون ومصابيح وأكواب وقناديل وغيرها ممّا يحتاجُ إليه الميّتُ في قبرِه حسب
اِعتقاداتِهم، وأنّ بعضَ هذه القبور قد وجدُوا فيها أقنِعةً ضاحِكةً أو ساخِرَةً،
وقد كان لها وظيفة التّمائم التي تُضحِكُ الأرواحَ الشِّرِّيرةَ وتُبطِلَ أذاهَا.
وعرَضَ الكاتِب في كتابِه (ص 95) صورةً لقناعٍ من هذه الأقنعةِ الضَّاحِكة، وكتبَ
تحتَها: "قناع بُونِيّ يُستَعمَلُ لِاِرتِباطِهِ باِعتِقادٍ دِينِيٍّ
لِإضحاكِ الأرواحِ الشِّرِّيرَةِ حتَّى لا تُؤذِيَ المَيِّتَ".
في الحقيقة لقد اِجتهد أجدادُنا
البونيّون واللّوبيّون منذ آلافِ السِّنين لكيْ يُبعِدُوا عنهم كلَّ أنواعِ
الشَّرّ والأرواحِ الفاسِدة، وذلك باِستخدام الضّحك والكوميديا والفرح والانشراح.
والحِكمةُ تقتضي النَّسجَ على منوال الآباء والأجداد. فالرّسم والمسرح والموسيقى
والسينما، إنما هي أدواتُنا اليومَ لطردِ الأرواحِ الشّرّيرة. والأرواحُ
الشِّرِّيرةُ في قليبية اليوم نوعانِ:
-
أولئك الذين يرفضون المسرحَ وسائرَ الفنون ويُشوِّهونَ
الفنّانين ويدعون النّاسَ إلى مُقاطَعتِهم. (ولا يُحرِّكونَ ساكِنًا أمام التّلوّث
والبناء الفوضويّ برًّا وبحرًا وجَوًّا لأنّ ذلك لا يُهدِّدُ مُقدَّسَاتِهِمْ).
-
أولئكَ المُكلَّفُونَ بحماية التُّراث ولكنّهم لا
يحمونَهُ، بل يترُكونَه للإهمال واللاّمبالاة.
وخِتامًا فإنّ الأرواحَ
الشّرّيرةَ بجميعِ أنواعِها وأشكالِها لا تُحبُّ "صُعودَ الجِبالِ"
والأبراجِ، بل تَعشَقُ "العيشَ بين الحُفرْ" والتَّطفُّلَ على الأمواتِ
في قُبُورِهم الضَّاحِكةِ.
مزار بن حسن
(*)p 230- 231. Voyage archéologique dans la régence de Tunis, Paris
1862