27 mai 2009
الذكرى السابعة لوفاة الشاعر محمد فوزي الغزي: شهادة على الأيام الأخيرة قبل وفاته
ملاحظة: نشر هذا المقال في نشرية "حولية الإبداع" الصادرة عن اللجنة الثقافية بحمام الأغزاز سنة 2003
إنّ ما جمعني بالصديق الراحل الشاعر "محمد فوزي الغزي" منذ أن عرفته (فكرا وأدبا) أقوى وأمتن من أن يمرّ بسرعة ويسر ويسقط من يد الزمن كأن شيئا لم يكن. لا سيما ما كان بيننا في الأيام الثلاثة التي سبقت رحيله عنا، وما جرى من حديث المسامرة في فترة استثنائية من عمره الذي لم يطل. هي الفترة التي جاءت لتفصل ما بين ظهور ديوانه الثالث: "آران خويز أو رجل المعراج" وبين حادث وفاته المفاجئ.
لقد كان بيته قبلةً للمثقفين من أصحابه ومريديه، يختلفون إليه ويحادثونه ويسامرونه ويألفون مجلسه ويشوقون إليه كلما بعدوا عنه.
في يوم السبت 25 ماي 2002، ذهبت إليه ليلا فوجدته جالسا وحده ينتظر مجيئنا ويستمع إلى الراديو. بقيت أستمع إلى ما يقوله فوجدته محبطا كعادته قبل ذلك اليوم. فقد مضى على صدور كتابه الجديد زمن ولم يلق حظه من الإعلام كما كان يتوقع، لا سيما أن الدار التي صدر فيها والسلسلة التي ظهر بها يفترض أنها موثوق بها متفق على صرامة اختياراتها. أضف إلى ذلك أنها تنشر أول مرة في تاريخها شعرا تونسيا.
قال لي إن ما قيل عن الكتاب الى حد ذلك الوقت ليس إلا من قبيل الإشارة العابرة والتلميح من بعيد، وهو لا يعدو مجال الإخبار بالعنوان واسم الشاعر ودار النشر.
حاولت عبثا أن أقنعه أن الأمر طبيعي ليس فيه من غرابة وأنه ليس استثناء من غيره، لكنه لم يبد اهتماما لما أقوله، بل ذكر لي أن هناك أطرافا معينة في الساحة الثقافية التونسية لا تريد أن ينال الديوان حظه الكافي من الاهتمام.
تناولت جريدة القدس العربي البريطانية لأقرأ له عناوينها ومجمل ما جاء فيها كدأبنا قبل ذلك في كل ليلة تقريبا:
الصفحة الأولى: "اغتيال نجل جبريل يعيد شبح الاغتيالات في لبنان"
"بوش يبدأ حملة لحشد الدعم لضرب العراق"
الصفحات الداخلية: "اسرائيل تسرع أعمال إنشاء سياج أمني وتقطيع الضفة الغربية"
"تكثيف الاستيطان اليهودي في محيط القدس"
"المعارِضة الأردنية توجان الفيصل تقرر ترشيح نفسها للانتخابات من داخل السجن"...
طبعا لم يكن وقع هذه العناوين، بمضحكاتها ومبكياتها أقل مضاضة على نفسه من الاستياء النفسي الأول...
أسرعت إلى الصفحة الثقافية لتدارك الأمر وتغيير الوجهة، فإذا بمختارات شعرية للشاعر الاسباني: "خوسيه أنخيل فالينتي" قام بترجمتها إلى العربية "خالد الريسوني". قرأتها عليه فأعجبه المقطع الأخير منها بعنوان: "صيغة كاتولو" وهو:
"تغريدٌ قصير صاف
يُحيي من خلاله الطائر العزيز عودتكِ
حبيبتي فليزده قلبك
يا هذا العصفور الصغير
الخفقان العذب من مادة بالكاد رنانة
والذي يغني قلبه وعيناه
الشعر الفاتن المعقود طويلا
يد المحبوبة حيث ينبض رأسك
مستلذّا في حنان.
أنت تجهل أن الحب حِمل صعب
وتغني برقّة تحت النور المعشوق،
لكن، هناك بعيدا سماء طليقة، جذلى
حيث الطيور تحلّق مغتبطة
يصرعني الحب ويغني.
تغريد يُشعل هواء عودتك أيتها المحبوبة،
مدن، أنهار أجساد
مغمورة في النهار
وقاس مثل النور
يدمرني الحب،
لكن، فلتحفظي أيتها الآلهة لأجلي أسرارَ الغناء." (انتهى)
هذه آخر قصيدة من الشعر الحديث قرأها الشاعر في حياته على ما أعتقد.
اتفقنا بعد هذا أن نقرأ "نشيد الأنشاد" النص التوراتي المشهور الذي ذكرتنا به هذه القصيدة لنكتشفه من جديد. كانت الساعة آنذاك تشير إلى الثانية والنصف صباحا على ما أذكر، وكان ينصت إليّ في خشوع، فكلما شدّه معنى أو أعجبته صورة تململ في مكانه وتمايل لها طربا ونشوةً من دون أن ينطق بكلمة.
غير أنه لم يتمالك نفسه حينما وصلنا إلى قول سليمان النبي يصف تلك المرأة (شولمّيث):
"شعرك كقطيع ماعز منحدر من جبل جلعاد... أسنانك كقطيع مجزوز خارج من الاغتسال".
حينئذ خرج من صمته واستوقفني ليكرر ما سمعه مستعذبا ومستلذا. كرّر هذا الكلام ثم قام من كرسيه واتجه نحو المطبخ يطلب علبة سجائر. لم تفارق العبارة لسانه إلى أن عاد وأخرج سيجارة جديدة وأخذ يعالجها قبل أن يشعلها ويلج عالم التوراة من جديد.
افترقنا في تلك الليلة على أن يكون اللقاء في الليلة المقبلة، كما اتفقنا على أن نواصل قراءة نصوص توراتية أخرى.
في ليلة يوم الأحد 26 ماي 2002 وجدته متهيّئا كله لهفة إلى متعة القراءة والاكتشاف. اقترحت أن أقرأ عليه شيئا من سفر أيوب، فأظهر عدم رغبته لقرب عهده بقراءته، فاتفقنا على قراءة سفر "مراثي إرميا"، ومضينا في ذلك إلى أن أوشكنا على الإصحاح الرابع فانتبهت آنذاك لأني قد أسأت اختيار النص، ذلك أن النفس التراجيدي الرثائي الذي يغمره قد أعاده إلى جوّ اليأس الذي كان فيه قبل يومين، حتى إذا كان الإصحاح الرابع قرأت له: "كيف اكدرّ الذهب وتغير الابريز؟" فاستوقفه وظلّ يرددها، ففهمت أنه يريد أن نكتفي بهذا القدر مما قرأناه.
قال لي ما معناه: إن هذا الصوت سيكون حاضرا مسموعا في ديواني المقبل لم أنتبه كثيرا إلى ذلك الكلام، ولكني بقيت عاجزا إلى حد الآن عن فهم المقصود منه.
هذا آخر ما كان بيني وبين الشاعر الصديق محمد فوزي الغزي، حاولت جاهدا أن أنقله كما رأيته وسمعته. ليكن شهادة شخصية لآخر أيام الشاعر، "للعشاء الفكري الأخير" من حياته، ذلك العشاء الذي أبى فيه إلاّ أن يصرح بنبوءته الأخيرة عن اللذين "أنكروه وعبسوا في وجهه وتولّوا عنه" ليتركوه وحيدا يتحسس طريقه بيده مثلما يتحسس "إرميا" النبي ما تبقى من طرقات أورشليم الخربة المدمّرة.
كانت وفاته- رحمه الله- بعد ظهر يوم الثلاثاء 28 ماي 2002. فارقنا إلى غير رجعة وترك فينا عبرةً وجمعا قد تفرّق.
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire