الرّسّام
رؤوف قارة
رحلة
النّورس و"البوسيدونيا"
يقول الشّاعر عبد الباسط بن
حسن، وهو شاعرٌ قبل أن يكونَ رئيسًا للمعهد العربيّ لحقوق الإنسان، يقول في قصيدته
"احتباس" المنشورة ضمن ديوانِه: "تجري في عيون أوقاتِنا"[1]:
"سنسبح اليومَ في هذا
البحرِ الخريفيّ،
قال رؤوف قارة
وهو يُلوّح لي بـ
"مايوه" عجيب
يَسَعُ كلَّ البحار".
ثمّ يكتب الشّاعرُ ملاحظةً في
هامش الصّفحة للتّعريف برؤوف قارة قائلا: "هو رسّامُ حالات البحر في
تونس". وهو أوجَزُ تعريفٍ قرأتُه لرؤوف. ولستُ أدري هل سيفرح رؤوف بهذا
الإيجازِ في التّعريف إن قرأه؟ أم سيسخط عليه ويعتبرُه مُخِلاًّ؟ إذ هل يُعقَلُ
أنْ تُختصَرَ تجربتُه الفنّيّةُ الكبيرةُ وتُقيَّدَ بكلمتيْن أو ثلاثٍ؟
ومهما يكنْ من أمرٍ فإنّ
جولاتِ رؤوف وسباحاتِه في شواطئ قليبية وحمّام الأغزاز كثيرةٌ لا تُحصَى، وهي ليست
خريفيّةً فقط كما يمكن أن نفهمَها من القصيدة، بل هي مستمرّة كالحياة، خريفيّةٌ وشتويّةٌ
وربيعيّةٌ وصيفيّةٌ... ولعلّها تتمُّ أيضا في فصولٍ أخرى لا نعرفها، وفي حالات
بحريّة ليس يقدِرُ على فهمِها سوى رؤوف، رسّام حالاتِ البحر في تونس، وصاحب
"المايوه" الذي يَسعُ كلَّ بحار العالم.
قد يكونُ اختيارُ الشّاعِر
لزمنِ الخريف اختيارًا اعتباطيًّا. ولكنَّ جولة رؤوف مع الشّاعر هنا كانت حتمًا
ذاتَ خريفٍ. يزيدُ من تحقيق ذلك وتأكيدِه وُجودُ قرينتيْن في نصّ القصيدة
دالّتيْنِ عليه، مانِعتَيْن مِن إرادةِ أيِّ فصلٍ آخرَ، إذ يُواصل عبد الباسط
قائلاً:
"على شاطئ حمّام الأغزاز
أعشابٌ بحريَّةٌ مُرهَقَةٌ
صيّادونَ يَختبِرونَ لُغاتِ
الصّبر
ورِمالٌ تنتَظِرُ مثلَ كلِّ
يومٍ وداعَ القواربِ".
القرينةُ الأولى الدّالّةُ
على الخريف هي "الأعشابُ البحريّةُ المُرهَقةُ" التي تخرج في ذلك الفصلِ
بكمّيّات هامّة، وهي بالتّحديد نبتةُ "الضّريع". والقرينة الثّانية هي
أولئك "الصّيّادون" الذين "يختبرونَ لُغاتِ الصّبرِ".
والمقصودُ بهم هنا هم صيّادو "الطّرّاح"[2]
الذين يرقبون أسماك "المجّل"[3] التي
تهجُم مثل "الضّريع" في كلّ خريفٍ.
رؤوف و"الضّريع" La posidonie (Posidonia oceanica)
الضّريع (أو البوسيدونيا) هو نبات بحريّ خاصّ
بالبحر الأبيض المتوسّط دون غيره من البحار، والعُهدةُ في ذلك على أهل العلمِ
والذّكرِ الذين نقلوا إلينا هذه المعلومةَ. ومثله في البحر كمثل شجرة الزّيتون في
البرّ، كلاهما مرتبط بالجغرافية المتوسّطيّة. وقد ذُكرت هذه النّبتة (أو على
الأقلّ بهذا الاسم) في القرآن باعتبارها غذاءً عديمَ القيمة: "ليس لهم طعامٌ إلا من ضريع، لا يُسمِنُ ولا
يُغنِي مِنْ جُوعٍ" (الغاشية: 6- 7). واختلف
المفسّرون في تحديد هذه النّبتة، فمعظمهم اعتبرها نباتا برّيًّا، لكنّنا نجد
روايةً يتيمةً منفرِدةً عن ابن عبّاس أوردَها القرطبيّ في تفسيرِه، تقول: "هو
شيء يرمي به البحرُ، يُسمّى الضّريع، من أقوات الأنعام لا النّاس، فإذا وقعت فيه
الإبل لم تشبع، وهلكت هزلاً"[4]. وربّما
كانَت تسميةُ تلك النّبتة البحريّة بالذّات بـ"الضّريع" قياسًا على نبتة
البرّ في كلّ نباتٍ لا حاجَةَ للإنسانِ به، وهو "لا يُسمن ولا يُغني من
جُوعٍ".
ولعلّ انفرادَ القرطبيّ في إيرادِ هذا التّفسير البحريّ
للكلمة يرجع إلى بيئتِه الأندلسيّة، فهو اسبانيّ متوسّطيّ قبل أن يكون رجلَ دينٍ مُفسِّرا
للقرآن، ومدينة قرطبة التي وُلد بها في القرن الثّالث عشر الميلاديّ لا تبعد عن
البحر المتوسّط كثيرا.
عندما يستوي "الضّريعُ" على سُوقِه في أعماقِ
المتوسّط، يكونُ ذا لونٍ أخضرَ لامِعٍ، لكنّه يذبُل تدريجيّا في فصل الصّيف فيفقد
اخضرارَه ونضارتَه وصلابتَه شيئا فشيئا إلى أن يُصبِحَ أسودَ أو بُنّيّا يميلُ إلى
السّواد. ثمّ تأتي رياحُ الخريف وتيّاراتُه البحريّةُ وأمواجُه المُزبِدةُ لتقطعَ
ما وهن منه وتذهب به بعيدًا في رحلةٍ متوسّطيّة تنتهي به إلى ضفاف الشّواطئ، حيث
يلفظُه البحرُ ويضعُه في شكلِ أكداسٍ كبيرة كالتِّلال. يحدُث له ما يحدثُ في
البرِّ لأوراق الشّجر في الخريف.
يستخدم النّاسُ في الوطن القبليّ "الضّريع"
بعد أن يتكدَّسَ على الشّواطئ ويجفَّ تحت الشّمس والهواء، وذلك في بعض الحاجيات
والأغراض، كتخزين أكداس البطاطا أو ملء الحشايا والوسائد والسّروج ونحوها...أمّا
رؤوف قارة فله فيه مآرِبُ أخرى...
يقولُ العلماءُ
(والعُهدَةُ دائما عليهم) أنّ "الضّريع" يكوّن نظاما بيئيّا له على
الإنسان والحيوانِ والأرضِ أفضالٌ كثيرة، فهو يساهم في تخزين الكاربون وحماية
الشّواطئ من الانجراف. كما يجدُ فيه السّمكُ طعاما سائغًا وملاذًا آمِنا يضعُ فيه
بيضَه، لتستمرَّ الحياة...
تتكوّن النّبتة الملتصِقةُ بحجارة
الأعماق من جذاميرَ (جمع جُذمور Rhizome) وهي سوقٌ (جمع ساق: Tige)
ملتحِمةٌ بالقاعِ أُفُقيًّا وتشُدُّها بالأرضِ جذورٌ من ناحيتِها السُّفلَى، متفرِّقةٌ
على امتداد هذه السّوق، ومِن ناحيتِها العُليا تنبُتُ الجذوعُ التي تخرُجُ منها
الأوراقُ الخضراءُ. أمّا الجذوعُ فتذبلُ وتسقُطُ ويكونُ مصيرُها كالأوراق، وتُسمَّى
عندنا "القبيون" بالقاف المعقودة. وأمّا الجذاميرُ فتموتُ ولكنّها تبقى
عالقةً بالأرضِ، ثمّ تتحجّرُ بفعل تراكم طبقةٍ مِن رمل الصّوّان عليها (La silice)، وتصبح
بعد آلاف السّنين أحافيرَ أو مُستحاثاتٍ (Fossiles)
يلتقِطُها رؤوف ويعيدُ تجميعَ ما تناثر منها وتكسّرَ، فتتشكّلُ عملا فنّيًّا خالدا
خلودَ الحياةِ المُستمرّة...
"البوسيدونيا"
لم تعدْ عديمةَ الفائدة إذن، فهي تُسمِن وتُغني مِن جُوعِ الفنّانِ وشهوتِه وإنْ
تحجّرت وطالَ انتظارُها آلافَ السّنين.
النّورسُ المكسور الجناح:
يستخدِم عبد الباسط بعد ذلك كلمةَ الجوعِ في قولِه:
"وذلك النّورسُ المريضُ
لم يهربْ عند قُدومِنا.
في أجنِحتِه المُنكسِرةِ
ماتتْ تهويماتُ ذاكِرةِ الفضاء.
سنحمِلُه إلى السِّباخِ
يلتقِطُ قُوتَهُ،
قال رؤوف بطِيبتِه التي
اختَبرتْ جُوعَ الألوانِ.
ولكنْ في حشرجاتِ النّورس
المُحتضِر
ذاكِرةُ لغات صحبة
وعزاء".
ففي الرّحلة الخريفيّة، الكُلّ
راحِلٌ ومُرْهَقٌ في رحيلِه. الشّاعِرُ والرّسّامُ و"البوسيدونيا" (أو
الأعشابُ البحريّةُ المُرهقةُ التي قطعت آلافَ الكيلومترات والسّنين)، وصيّادو
"الطّرّاح" أتعبهمْ الصّبرُ والانتظارُ، وأخيرًا النّورسُ الجريح الذي
رأى فيه رؤوف نفسَه حينما "تجوع للألوانِ"، فأشفقَ عليه واقترحَ حملَه
إلى السّبخة ليلتقِطَ قوتَه لعلّه يتعافى فينطلقُ مواصِلا رحلتَه.
إنّ طيورَ النّورسِ تخرُجُ من
وُكُناتِها فجرًا في جزيرةٍ من جُزُر اليونان أو إيطاليا أو لعلّها زمبرة أو
زمبرتا أو جالطة... فتطوفُ آلافَ الكيلومتراتِ بحثا عن قوتِها وقوتِ فراخِها، ثمّ
تعودُ في آخرِ النّهارِ بعد انتهاء الرّحلة إلى حيثُ كانت.
يقولُ لنا العُلماءُ
(والعُهدة على الويكيبيديا الفرنسيّة هذه المرّة) إنّ طائرَ النّورس تعود تسميتُه
الفرنسيّة (Goéland)
إلى كلمة ( gwelan أو gouelañ) وهي في اللّغة
البريتانيّة السّلتيّة بجنوب فرنسا تعني (بَكى : Pleurer)[5]
فلعلّه سُمّي كذلك لأنّه مجبولٌ على البكاء وصوتُه كأنّه النّحيبُ. وقد اختار
الشّاعرُ كلمة "حشرجة" وهي كما جاء في المعجمِ من فعلِ "حشْرَجَ:
ردَّدَ نَفَسَهُ في حَلْقِه. ويُقال: حشرجَ المُحتضَرُ عند الموتِ"[6]
لا أدري لماذا ذكّرتني صورةُ
رؤوف مع النّورس الجريح بصورةِ الشّاعر عنترة بن شدّاد مع جوادِه الجريح في
المعلّقة رغم الاختلافات الممكنة بين العالميْن:
فاِزْوَرَّ مِنْ
وَقْعِ القَـــنا بِــــلَبَانِـه وشكا
إليَّ بِعبرَةٍ وتحمْحُمِ
لو كانَ يَدْرِي ما
المُحاورَةُ اِشْتَكَى وَلَكَانَ
لَوْ عَلِمَ الكلامَ مُكَلِّمِي
لكنّ رؤوفا فهمَ جيّدا
محاورةَ النّورسِ واستبطنَ مشاعرَه وعرفَ قصدَه ومرادَه وشكواهُ. فكلاهما مسافِرٌ
ومُرتحِلٌ ومُحلِّقٌ في سماء الحرّيّة. ولا يمكنُ السّفرُ والرّحيلُ في غياب
الجناحيْن. لا سفَرَ إلاّ بالجناحيْن. ولا حياةَ إلاّ بالحرّيّة.
سافرَ رؤوف قارة واقتفَى
آثارَ النّورسِ من "شبه جزيرة" الوطن القبليّ إلي جُزر البحر الأبيض
المتوسّط، من إيطاليا واليونان واسبانيا، ثمّ سافر إلى ألمانيا، وأقامَ ستّةَ
أشهرٍ من عمرِه في جُزرِ اليابان. وقد نهل في كلّ مكانٍ يحُطُّ به من معينِ الفنّ،
فغاصَ في أعماقِهِ وصعِدَ في عليائهِ وسكرَ من نبيذِه، وخبرَ مشارقَ الأرضِ
ومغاربَها وسبرَ ألوانَها وأشكالَها، ونصبَ بها راياتِ لوحاتِه الفنّيّةِ
وأعلامَها. ثمّ عادَ إلى "شبه جزيرتِه" ليجِدَ "البوسيدونيا"
تنتظِرُه من آلافِ السّنين، وقد تحجّرت بفعل الصّبرِ والانتظارِ. تنتظرُه ليُعيدَ
تشكيلَها من جديد فتواصِلَ رحلتَها الخالدة وتحلّق في سماء الفنّ، لأنّ الحياةَ
يجبُ أن تستمرَّ...
جلسْتُ في ورشةِ رؤوف قارة
المُطلّةِ على ميناء قليبية. أمامي الحاسوبُ وسفنُ الصّيد الدّاخلة والخارجة.
بدأتُ أكتبُ هذا المقالَ ورؤوف في مكانٍ آخرَ من الورشةِ منشغِلٌ بإعدادِ لوحاتِه
التي سيُشارِكُ بها في معرضٍ من معارِضِه. وهو لا يعرِفُ أنّي بصددِ كتابةِ هذا
المقال، لأنّه في ذلك الوقتِ يُحلِّقُ كالنّورسِ عاليا في سماءِ فنِّه. وكانت
الأغنيةُ التي نستمعُ إليها معا هي أغنية محمّد عبد الوهاب: "النّيل
نجاشيّ" التي تقولُ في ما تقولُ:
"جات
الفلوكة والملّاح ونزلنا وركبنا
حمامة
بيضا بفرد جناح تودّينا وتجيبنا
ودارت
الألحان والرّاح وسمعنا وشربنا
صلّحلي
قلوعك يا ريّس
هيلا
هوب هيلا".
مزار
بن حسن
[2] الطّرّاح (بالفرنسيّة: Epervierبالإيطاليّة: Rezzaglio وبالاسبانيّة: Esparavel)
آلة صيد شبكيّة
قديمة ومنتشرة في كثير من بلدان العالم بأشكال مختلفة. وتتشابه أشكالها وطرق
استخدامها في سواحل المتوسّط. وهي من عادات سكّان بعض المناطق السّاحليّة في تونس
وتقاليدهم الموروثة. ويخضع صيد الطّرّاح قانونيّا إلى ما يُسمّى: الصّيد البحريّ وقوفا
على الأرجل " la
pêche à pieds" باستعمال الشّباك، المنصوص عليه بالفصل
الخامس من القانون عدد 13 لسنة 1994 مؤرخ في 31 جانفي 1994 يتعلّق بممارسة
الصّيد البحريّ.
[3] خلال منتصف شهر أكتوبر من كلّ سنة ينطلق موسم
صيد "المِجّل" Mugil وهو سمك يعيش على امتداد سواحل
البحر الأبيض المتوسّط، وينتمي إلى فصيلة البوريّات: Mugilidae وتُعتَبَر الطّرّاح قديما الوسيلةَ المثاليّة
لصيدِه، قبل أن يتطوّر الصّيد البحريّ وتتطوَّرَ معه أدواتُه. ورغم تناقص كمّيّات
المجّل التي تمرّ عبر شريطنا السّاحليّ من سنة إلى أخرى نتيجة الصّيد العشوائيّ
والتّلوّث... فإنّ "الطّرارحيّة" ما زالوا أوفياء لموعدهم الخريفيّ مع
هذه السّمكة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire