31 déc. 2018

قراءة في كتاب: "محطّات في مَسارِ الأيّام" لِمُحمّد بن اِمحمّد البلاجي:

قراءة في كتاب: "محطّات في مَسارِ الأيّام" لِمُحمّد بن اِمحمّد البلاجي:

سيرة صانِعِ السّيوف والدُّروع

مزار بن حسن

كلّما أوغلَ الكاتِبُ صاحبُ السِّيرةِ في تأمُّلِ ذكرياتِه الماضيةِ، أحسَّ بالسّعادةِ تغمُرُ قلبَهُ، ودَبَّ فيه السُّرورُ والانشِراحُ. وكيف لا يُسَرُّ إذا كان اللهُ قد أنعمَ عليه دونَ سائر خَلقِهِ وجعلَهُ يولَدُ ويترعرعُ في "منطقةٍ مِن أجملِ ما خَلقَ وأبدَعَ (...) يَلُفُّ البحرُ جهاتها الثّلاثَ، فيُعدِّل مناخَها ويُلطِّفُ من طباعِ أهلِها؟". تلك هي "قليبية" كما يصفُها الكاتبُ، حقولٌ ومزارعُ تجري من تحتِها مياهٌ تسكُبُها الدِّلاءُ في السّواقي صافيةً مُتلألِئةً. وتنبعثُ من تُرابِها الذي تقلبُه المحاريثُ روائِحُ نديَّةٌ عطِرةٌ، فتُنبِتُ "الدّرع" و"القطانية" و"الدّخان" و"الدّلاّع" و"الهندي" و"الكرموس"... وتختلط بروائح ملح البحر و"السّمك المقليّ والبطاطا المُحمّرة والسّلاطة المشويّة" (1).
الجنّةُ المنيعة:
كلُّ عناصرِ الطّبيعة في تلك الرُّبوعِ تتّحِدُ لِتزْهُوَ كما لا تتّحدُ في أيِّ مكانٍ آخرَ. حتّى العصافيرُ هناكَ ليست كغيرِها، فهي إذْ تطيرُ وتشدُو، "تملأ الجوَّ عبثًا وحُبُورًا، مُنتقلةً بين أشجارِ الإجّاصِ وخمائلِ "الدِّفلة" و"نوّار العشيّة". وما كانتْ لتكونَ كذلك لولا إحساسُها بالأمانِ والمَنَعةِ ويقِينُها التّامُّ أنّها في جِنانِ الخُلدِ المُطلقِ، بل إنّ "الجنّةَ الموعودةَ" كما يزعُمُ الكاتبُ "لا تختلف في شيء عن جنّته التي قضى فيها طفولتَه واِستمتعَ بها في طمأنينةٍ ودَعَةٍ".
إنَّ الإحساسَ بالجنّةِ المنيعة والحصينةِ في الوطن القبليّ عامّةً، وفي قليبية خاصّةً، ليسَ بدعةً من بِدعِ صاحبِ السّيرةِ أو اِدِّعاءً من اِدِّعاءاتِه، بل هو ضارِبٌ بجُذُورهِ في عُمقِ التّاريخ واللّغة. أليست التّسمية القديمة لمدينة "قليبية" هي "Aspis" الكلمة اليونانيّة التي تحمل معنى "المِجَنّ" أو "التُّرْسُ" أو الدِّرع؟ والمِجَنُّ والجَنَّةُ يشتركانِ في جذرٍ واحدٍ (ج/ن/ن)، والفعلُ جَنَّ معناهُ: أخفى وسترَ ووَقَى. والجُنَّةُ، كما في لسان العرب، الدِّرْعُ، وكُلُّ ما وَقاكَ. أمّا الجَنَّةُ فيقولُ فيها ابنُ منظورٍ: "هي دارُ النَّعيمِ في الدَّارِ الآخرة، مِنَ الاِجتنانِ، وهو السِّتْرُ، لِتكاثُفِ أشجارِهَا وتَظلِيلِها باِلتفافِ أغصانِها".
زِدْ على ذلك ما نقلهُ الكاتبُ عن المؤرّخ "ديودور الصّقلّيّ" سنة 90 ق- م الذي وصفَ ما شاهده في طريقهِ من قليبية إلى قرطاجَ قائلا: "أجنّة ذات أشجار مثمرة تشقّها السّواقي تنقل مياهَ العيون الصّافية (...) وأمّا المخازنُ فكانت تفيضُ بالخيراتِ من حبوبٍ وزيوتٍ وبقولٍ وخمورٍ... وفي السّهول كنتَ ترى قطعانَ الغنمِ والبقرِ ترعى في طمأنينة..." ويُضيف المؤرّخ أنّه لولا حالةُ السّلم الطّويلة التي عاش فيها السّكّانُ، ولولا إحساسُهم بالطّمأنينة والاِستقرار لَما اِستطاعوا تحصيلَ كلِّ تلك الخيراتِ (2).
وليس من بابِ الصّدفةِ أيضا أن يُطلِقَ "سي محمّد البلاجي على نفسه اسمَ "محرز" في الرّواية، فقد اِختارَ عمُّه مصطفى هذا الاسمَ حسب قولِه، تبرُّكًا بالوليّ الصّالح سيدي محرز بن خلف سلطان المدينة وحارِسُ حاضرةِ تونسَ. والحِرزُ في اللّغةِ هو الحِصْنُ والدِّرعُ. مع ما نعرفُهُ عن هذه الشّخصيّةِ مِنْ شدّةٍ وصَرامةٍ وبأسٍ في وجهِ الامتدادِ الشِّيعيِّ الفاطميِّ الآتي من الشّرق.
الخطيئة والطّرد:
أمّا لقبُهُ (البلاجي) فهي كلمةٌ تركيّة تعني مِهنةَ صانعِ السُّيوف، لأنّ "البالة" باللّغة التّركيّة هي السّيف الكبير، ولأنّ جدَّه الأوّلَ كانَ حدّادًا، وقد وفد إلى قليبية قادما من "أدرنة" من الأناضول ضمن عسكر الأتراك لِيصنعَ السّيوفَ للجنود. لكِنْ هل يستقيمُ صُنعُ السُّيوفِ في الجنّة؟
يذكُرُ الكاتِبُ حكايتيْن مُنفصلتيْن: الأولى هي حادثةُ الطّرد، طرد الأب (جدّ السّارد) لابنِه (أبو السّارد). والثّانية هي تقدير العائلة للعلم منذ القديم. أمّا الأولى فقد بقيت غامضةً، حيث لم يذكرْ الكاتبُ سببَ طردِ جدِّهِ لأبيه بوضوحٍ، واِكتفى بالقولِ إنّه سألَ أمَّه يوما ما عن سرّ وجودِ منزلهم القديم في ذلك المكان النّائي عن البلدة، فأجابته بأنّه "قد تخطّى التّراتيبَ وأرادَ كسرَ القوانين، فأطردَه أبوه من الدّكّان الذي كان يرتزق منه ومن الغرفة التي كانت تأويه"، وهو ما فعله أيضا مع اِبنهِ الثّاني (عمّ السّارد) ممّا جعلَ الأبَ ينتقلُ إلى "علية الشّوارف" ليُؤسّسَ مملكتَه المستقلّةَ حيثُ فتحت المدرسة العصريّةُ أبوابَها لاستقبالِ "البلاجي الحفيد" (أي الكاتب). إنّ "كسرَ القوانين" هو تعبير آخرُ عن خطيئةٍ ما اِرتكبها الأب فاِستحقَّ غضبَ أبيه وسُخطَه عليه وطردَه من "جنّتِه"، تماما كما طرد الله آدمَ وحوّاءَ من الجنّة بعد أن أكلا من ثمارِ الشّجرةِ المُحرَّمة (شجرة المعرفة)، فكتبَ على ذرّيّتِهما شقاءً أبديًّا.
الحكاية الثّانية هي ما ذكره الكاتبُ من تقليد موروثٍ عن الأجداد، وهو اِحترامُ العلم والعلماء، فقد كان "الحاج حسن البلاجي"، وهو أحد أسلاف العائلة يُنفِقُ جميعَ مكاسبهِ من أجل أن يتنقّلَ أبناؤُه إلى تونسَ ويُباشِرُوا تعلُّمَهم بجامع الزّيتونة. وبذلك نتبيّنُ من الحكايتيْن سِرًّا دفينًا وحِكمةً عظيمةً تتوارثُها عائلة البلاجي وتتناقلُها جيلا بعد جيلٍ إلى أن وصلتْ إلى صاحبِ السّيرة، ويُمكن أن نُلخِّصَها بما يلي:
إنّ البقاءَ في نعيمِ الجنّةِ والتّنعُّمَ بهناءِ العيش تحت ظلالِها مشروطٌ بعدم تذوّقِ شجرة المعرفة، فإذا عنَّ لك أن تتذوَّقَها، عليك بدفع الضّريبة، وهي الطّرد والتّيه والشّقاء. إنّ وظيفةَ البلاجي صانع السّيوف هي أن يصنعَ لابنِهِ سيفًا ودِرعًا، ثمّ يُطالِبُه بالحركة والاِرتحالِ، فيزجُّ به في معتركِ الحياةِ مُنازِلا ومُحارِبًا، ويقولُ له: "فلتصنعْ جنَّتَكَ بكدِّ يمينِكَ وعرقِ جبينِكَ وحُسنِ تدبيرِكَ، ولا مكانَ لك في جنّةِ أبيكَ".
لقد عبّرَ الجاحِظُ عن هذه الفلسفةِ في "رسالة الأوطانِ والبلدانِ" قائلا: "إنّ طولَ المُقامِ مِن أسبابِ الفقرِ، كما أنّ الحركةَ مِن أسبابِ اليُسْرِ (...) وإنّ اللهَ قسَمَ المصالِحَ بينَ المُقامِ والظَّعْنِ، وبين الغُربةِ وإلْفِ الوطنِ، وبينَ ما هو أربَحُ وأرفعُ، حينَ جعلَ مَجارِيَ الأرزاقِ مع الحركةِ والطَّلَبِ. وأكثرُ ذلك ما كانَ مع طولِ الاِغترابِ والبُعدِ في المسافةِ، لِيُفيدَكَ الأمورَ، فيمكن الاِختبارُ ويحسُن الاِختيارُ".
"هيفايستوس وأثينا": الحديد والحرب والحكمة:
في غمرةِ "الحركة والطّلبِ والاِغتراب" التي تحدّث عنها الجاحظُ، وفي إطارِ الخطيئة المُتوارَثةِ في العائلةِ، واللّعنةِ المُتكرِّرةِ جيلا بعد جيلٍ، شملت رحلةُ "البلاجي الحفيد" خارج قليبية محطّاتٍ هامّةً، وفي كلِّ محطَّةٍ تطَأ قدَمُه أرضًا وَعرَةً، بل مُتحرِّكةً ومُتصدِّعةً. وهي الصّورةُ التي عبّرَ عنها "محرز" صراحةً عند نزولِهِ "جيبوتي" التي سمّاها: "بلاد الأدغال والأهوال"، في إطارِ بعثةٍ تعليميّةٍ للتّعاون الفنّيّ، فقد وجد هناك أرضًا بركانيّةً واقعةً في ملتقى الصّفائح التّكتونيّة، وكلّما تحرّكت تلك الصّفائحُ هاجت البراكينُ وتزلزلت الأرضُ. ومثلما تلتقي الصّفائحُ تحت تلك الأرضِ، تلتقي فوقها أيضا قبيلتانِ متصارِعتان: "العفر والعيسَى". أمّا الأولى فهي إيريتريّة تسكن شمالَ البلاد، وهي مُهادنةٌ للعرب. وأمّا الثّانية فصُوماليّة تسكن العاصمة والجنوب، وهي مُناوئة للعرب لأنّهم يعتبرونهم غُزاةً. وكأنّ قدرَ محرز في كلِّ أرضٍ يحُلُّ بها، أن يعودَ إلى مِهنةِ آبائه وأجدادِهِ، فيُذيبَ المعادِنَ ويصهرَ الحديدَ في الحديدِ لِيُخفِّفَ حدّةَ التّوتّر والاحتكاك بين الصّفائح الجيولوجيّة والقبَليّة، وليُخمدَ ثورةَ البراكين والزّلازل ونزاعاتِ القبائلِ والشّعوب. وقد فعلَ مثلَ ذلك عندما كانَ طالبًا في الجامعة، "عميلا مُزدوجا" على حدّ تعبيره، ومُوفِّقًا بين اليمين واليسار في تسيير الأنشطة الثّقافيّة، أو بين نزاعاتِ "ماجر" و"الفراشيش" عندما أصبح في ما بعدُ مُديرًا للمعهد الثّانويّ بتالة.
تُحدّثنا الأسطورة اليونانيّة عن "هيفايستوس Héphaïstos" إله الحديد والمعادن عند الإغريق. وقد اِنتصر لأمِّه "هيرا" إثر خلافٍ جدَّ يومًا بينها وبين أبيه "زيوس" كبير الآلهة. فما كان من "زيوس" إلاّ أن عاقبَه على ذلك، فدفعَه من أعلى جبل "أولمب"، ودامَ سُقوطُه يومًا كاملا حتّى تشوّهت خِلقتُه. ثمّ وجد "هيفايستوس" نفسَه في جزيرة "ليمنوس" بالقرب من بركان "موزيكلوس Mosychlos" حيثُ تعلّمَ صهرَ المعادن وصنعَ الآلات الحديديّة باستخدام النّار والحمم البركانيّة.
وتضيف الأسطورةُ أيضا أنّ الإله "أورانوس" حذّر "زيوس" يوما من أنّ أحدَ أبنائه من زوجته "ميتيس" سيفتكّ منه عرشَه، فذهب إليها وهي حامِلٌ فاِبتلعها. وبعد أشهرٍ أحسَّ بآلامٍ حادّةٍ في رأسِه، فطلبَ من ابنهِ "هيفايستوس" أن يفتحَ له جمجمتَه بفأسٍ، ففعل، فخرجت منها ابنتُه "أثينا" آلهة الحرب والحكمة والذّكاء (4).
لعلّ سيرةَ "البلاجيّ" هي إعادةٌ مُلطَّفةٌ لسيرة "هيفايستوس" الإله المُغترِب والمطرود مِن الجنّة إلى الجحيم (البركان)، صاحب السّيوف والدّروع وسائِرِ الآلاتِ الحديدِيّة التي لا يمكن صُنعُها في جنّةِ الأب، صاهِر الحديد بالحديد، لما فيه من "بأسٍ شديدٍ ومنافعَ للنّاسِ" (5)، ولِما في صَهرِه من براعةٍ وحكمةٍ ومُجاهدَةٍ ومُصابرةٍ.

(1) محمد بن امحمد البلاجي، محطّات في مسار الأيّام، دار زينب للنّشر، ط1، 2018.
(2) جلول عزونة، صفحة مجهولة من تاريخ ماسينيسا بالوطن القبليّ، ضمن كتاب "دراسات حضاريّة عن تونس" دار الإتحاف للنّشر، تونس دون تاريخ، ص 7.
(3) رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السّلام محمّد هارون، بيروت، دار الجيل، 1991، مج 2، ج 4، ص109، 112.
(4) ويكيبيديا الفرنسيّة: مادّة: Héphaïstos.
(5) سورة الحديد (58)، الآية: 25.


9 nov. 2018

معنى الحياة في حمّام الأغزاز


معنى الحياة في حمّام الأغزاز




في تسعينيّات القرن الماضي، أرادَ أحَدُ كبارِ التُّجّارِ ورِجالِ الأعمالِ التّونسيّينَ المُقيمينَ

بتونسَ العاصمة تَمْضِيةَ فصلِ الصّيفِ في إحْدَى قُرَى الوطنِ القبليِّ التّونسيّ، فذهبَ إلى أحَدِ مُوَظَّفيه المُستَخدَمِينَ عنده في شركتِه التّجاريّة، وقدْ كانَ يعرِفُه غُزّيًّا (من حمّام الأغزاز)، إذْ كانَ في كلِّ سنةٍ يأتيه بِـ»عُولَتِه» مِن «الفلفل المرحيّ» و»الدّرع» (Sorgho) من هناك، فسأله عن قريةٍ ساحِليّةٍ هادِئةٍ بعيدةٍ عنِ التّلوّث بكافّةِ أشكالِه الهوائيّة والبصريّة والسّمعيّة، فقال له: لِمَ لا تستأجِرُ منزلا بحمّام الأغزاز؟ فهي المكانُ الذي ستَجِد فيه حتْما ضالَّتَكَ. بعد مُفاهمةٍ، استقرَّ الرّأيُ على منزِلٍ بحمّام الأغزاز يتوسّطُ الحُقولَ ويُشرِفُ على البحر من الشّرق وعلى المناطق الزّراعيّة الخضراء من الغرب.

قال الغُزّيّ- والعُهدَةُ عليه-: في اللّيلة الأولى التي قضاها التّاجرُ هناك، وبينما كانت العائلةُ في نومٍ عميقٍ، فجْأةً استيْقظ الجميعُ هَلِعِينَ على صَوتٍ صارخٍ كأنّه صاعِقةٌ مِنَ السّماء، لم يفهموا شيئا في البداية. حتّى كلْبُهم فوجِئَ بانطلاق الصّعقةِ المُدَوِّيّةِ، فدخلَ في حالةٍ نُباحٍ هستيريّةٍ. لكنّهم سرعانَ ما عرفوا أنّه صوتُ نهيقِ حِمارٍ كانَ مُوثَقًا بِحبْلٍ إلى سورِ المنزلِ، وبين السّورِ والشّبّاك الخلفيّ للمنزل مسافةٌ قصيرةٌ جِدّا. لعلَّ صاحِبَهُ أهملَهُ وتَرَكَهُ هناكَ للجوعِ والعطشِ وصقيعِ اللّيلِ، بعد يومٍ كامِلٍ منَ الأشغالِ الفلاحيّةِ الشّاقّةِ.

ثمّ إنَّ كلبَهم لمّا جعل ينبحُ ويَعوِي مِن شِدَّةِ الذُّعْر، أحدثَ بَلْبَلَةً وضجيجًا في المنازلِ والحقولِ المُجاوِرة، فجاوبَتْهُ الكِلابُ الأخرى بنبيحِها وعُوائِها أيضًا. تمامًا كما جاوبتْ الأحمِرةُ غيرُ البعيدةِ عن المكانِ أخاها الحمارَ كأنّها تُعبِّرُ عن تضامُنِها ومُساندَتِها. وهكذا باتُوا ليلَتَهم بين نُباحٍ ونَهِيقٍ وغيرِ ذلك من صياحِ الدِّيكةِ وأصواتٍ أخرى لمْ يَتوَصَّلُوا إلى معرِفتِها. ولَمْ يَذُوقٌوا للنَّومِ طَعْمًا.

مع انبلاجِ الخيوطِ الأولى مِنَ الصّباحِ، كانَ كلُّ شيءٍ قد خَمَدَ وسَكَنَ. وظنَّ التّاجِرُ وعائلتُه أنّها فُرصَتُهُمْ الآنَ للنّومِ بعد ليلةٍ مِنَ المعاركِ والمُواجهات. لكنْ هيهاتَ !...

الفزَّاعة الصَّامِدة:

قَرْعٌ على الحديدِ والصّفيح وصياحُ أطفالٍ وتصفيرٌ دون انقطاعٍ. صِبْيةٌ يصرُخونَ ويصيحونَ وأعْيُنُهم في السّماء: «حاح حاح... !» وكُلُّ واحِدٍ منهُم ماسِكٌ بيدِه اليُسْرَى «قصدريّةً» فارغةً أو «طاسةً» كبيرة ينهالُ عليها ضرْبا بِعَصًا في يدِه اليُمْنَى فتُحدِثُ أصواتًا مُنفِّرَةً. كما رأى مجموعةً من بقايا عُلب «البيرة» و»القازوز» وما شابهها مِن الأوعية القديمة قدْ شُكَّتْ في خيطٍ طويلٍ مُرْسَلٍ فوقَ رُؤوسِ الزّرْعِ حتّى صارتْ كالقِلادَةِ، ثمّ أمسكَ أحَدُ هؤلاء الصِّبيةِ الخيطَ مِنْ طَرفِهِ فجَعلَ يَرُجُّه ويُحرِّكُه في كلّ اتّجاهٍ ليُحدِثَ صليلاً وجلجلةً وَ»شكْشكَةً» تَصُمُّ الآذانَ. ثمَّ لمَحَ من بعيدٍ هيأةَ إنسانٍ مُعلَّقٍ فوقَ السّنابِلِ يلبَسُ لباسًا رَثًّا مُمَزَّقًا، وفهِمَ حينَئِذٍ أنّها فزَّاعَةٌ اتّخذَها هؤلاءِ لطَرْدِ الطّيور، وأنَّ جميعَ ما سمِعَه مِنْ أصواتٍ حادَّةٍ وجميعَ ما رآهُ في الحُقولِ مِنْ أدواتٍ للتّطبيلِ والتّزميرِ وفُنونِ الضّوضاءِ والضّجيجِ، إنّما هو في سياقِ عمليَّةِ إخافةِ تلك الطّيورِ ومَنْعِها مِنَ الاقترابِ مِنَ المَحصولِ والأكلِ مِنهُ، وتُسمَّى هذه العمليّة بِــ»التّحاحيّة»، وتدومُ يومًا كامِلاً مِن طُلوعِ الشّمسِ إلى غُروبِها. لمْ يَعْرِفْ في البدايَةِ ما نَوْعُ الزّرعِ الذي يُقبِلُ عليهِ الطّيْرُ بنَهمٍ شديدٍ، لكنَّه عندما سألَ عنهُ قيلَ له إنّه «الدّرُعْ» (Sorgho). ذاكَ الطّعامُ الشّهيُّ الذي يُقْبِلُ عليهِ هو الآخَرُ بنَهمٍ شديدٍ ويأخُذُ مِنه كلَّ سنةٍ «عُولَتَه» عن طريقِ ذلك الغُزّيّ الذي يشتغِلُ عندَهُ في شرِكتِه.

قال الغُزِّيّ أيضا: إنَّ هذا التّاجِرَ لمْ يُكْمِلْ يومَه ذاكَ في حمّام الأغزاز، بل جمَعَ زادَهُ وعُدّتَه التي كان قد أتى بها قبلَ يومٍ، وأقْسَمَ ألاّ يَبيتَ ليْلتَهُ تلكَ إلاّ في منزِلِهِ بتونِسَ. وبعدَ تلك الحادِثةِ ظلَّ يُحدّث النّاسَ عن حمّام الأغزاز ويقولُ إنّها البلدةُ التي يصيحُ أهلُها في النّهار وحيواناتُها في اللّيل !!

بعد سنواتٍ قليلةٍ جرتْ حكايةٌ ثانِيةٌ لا علاقةَ لها بالأولَى في البدايةِ. ففي صائفة سنة 2003، تعرّفتُ إلى «بيير»، أحدِ السّيّاح الكنديّين في تونسَ، وهو مُتخصِّص في الرّعاية النّفسيّة للأطفال المرْضَى في أحدِ مستشفياتِ «مونريال» (Montréal)، وبصددِ إتمامِ رسالةِ بحثِه في الدّراساتِ المُعمَّقةِ حول علم نفس الفنّ، وقد أتى إلى تونسَ في بِعثةٍ مِن إدارة المستشفَى. وبعد سلسلةٍ من اللّقاءاتِ بيننا، اِكتريتُ له في حمّام الأغزاز المنزلَ نفسَه الذي اكتريْته سابقًا لبطل الحكاية الأولى، وتركتُه هناك لقضاءِ ليلتِه قبل أن نتلاقَى في الصّباح.

ما حدث لِـ «بيير» في ما بعد حسب روايتِه:

لم يَنَمْ «بيير» ليلتَها إلاّ ساعةً أو بعضَ ساعةٍ، فَما إن بدأ النّومُ يُغالِبُهُ في السّاعاتِ الأولى من الفجر حتّى انطلق القَرْعُ على القصدير والصّفيح وصياحُ الأطفال وتصفيرُهم، وصليلٌ وجلجلةٌ وَ»شكْشكَةٌ» لم يفهمْ مأتاها في البداية، لكنّه عندما أطلّ من الشّرفة ورأى الأطفالَ وأدواتِهم، ورأى الزّرعَ الذي لم يرَه ليلاً، فهمَ كلَّ شيْءٍ. لقد كان «بيير» على علمٍ سابقٍ بعمليّة «التّحاحيّة» لكن على الطّريقة الكنديّة، فقد اشتغل كما أفادني لاحِقًا أثناء دراسته الجامعيّة في جني محاصيل الفلاحة من طماطم وتفّاح وعنب وغيرها في الرّيف الكنديّ، وقد مكّنته هذه التّجارب من رُؤية زراعة «الدّرع» الذي يُسمّى في كندا الفرنكوفونيّة: Le millet perlé. كما رأى الطّرقَ الحديثة لتفزيع العصافير وهي الفزّاعة الالكترونيّة: épouvantail électronique أي تلك الآلة التي تعمل بالغاز الطّبيعيّ وتُحدث كلَّ مُدّة معلومة صوتَ انفجار كبير يفزّع العصافير الجائعة التي ترى في حبوب «الدّرع» أو الذّرة أو غيرها وجبةً شهيّةً، وبتلك العمليّة يتمّ تأمينُ «الصّابة» من التّلف والنّقصان بشكل ناجع.

نزل «بيير» إلى الحقل وتعرّف إلى الأطفال المُشرفين على تأمين الصّابة بصياحهم وتطبيلِهم، ووجدَ أنّهم تلاميذ تُوكَلُ إليهم هذه المهمّةُ أثناء العطلة الصّيفيّة، ويتقاضَوْنَ في مقابلِ عملِهم هذا أجرًا معلومًا يُعينهم على تغطية تكاليف العودة المدرسيّة. اِلتقط معهم صورا فوتوغرافيّةً، فرديّةً وجماعيّة، وأعطاهم الحلوى والشّكلاطة وبعضَ الهدايا التّذكاريّة، وصاح و»شكشك» مثلهم. قال لي «بيير»: إنّ هذا الذي عشتُه مع الأطفال في أوّلِ يومٍ نزلتُ فيه بحمّام الأغزاز هو الحياة الحقيقيّة التي لم أعُدْ أراها في كندا. إنّ النّاسَ في «مونريال» فقدوا معنى الحياة منذ زمنٍ بعيدٍ. والطّفلُ الذي رأيتُه اليومَ في حقل «الدّرع» قادِرٌ على إدراكِ معنى وجودِه بحكمةٍ لم يعُدْ يبلُغُها الإنسانُ الأمريكيّ أو الأوروبّيّ اليومَ.

صراع الفلاّح والسّمسار:

رحل «بيير» بعد ذلك. قفل راجعا إلى بلدِه، واِنقطع ما كان موصولا بيننا، إذ لم أجد عنوانَه الالكترونيّ الذي سجّلتُه في مكانٍ ما ثمّ أضعتُه. وعندما ظهر الفيسبوك في ما بعد بحثت عنه أيّاما وليالِيَ مُتّبِعًا كلَّ أنواع البحث الالكترونيّ الممكنة. بحثت عنه أيضا في «جوجل» و»تويتر» وغيرهما فلم أظفرْ بطائِلٍ. بحثتُ عنه لِأُخبِرَهُ بأنّ الأطفالَ الذين أُعجِبَ بهم تعبوا الآنَ من الصّراخِ والتّصفير، وأنّهم لم ينجحوا في مسيرتهم الدّراسيّةِ التي صاحُوا من أجلِها في وجوه الطّير. بحثتُ عنه لِأُخبِرَهُ أنّ الصّياحَ وقرعَ القصدير ونحوِه قد اِنقطع من حمّام الأغزاز لِتُعوِّضَهُ الفزّاعاتُ الالكترونيّة المُفرقِعة التي يعرفها هو في كندا. بحثتُ عنه لِأخبِرَهُ أنّ مساحاتِ حقولِ «الدّرع» تتضاءلُ سنةً بعد أخرى لتترُكَ مكانَها شيئا فشيئا للمالكين الجُدد وللزّحف العمرانيّ والفيلات والعمارات التي يبتنيها النّاسُ لكرائِها للمصطافين المجانين بالبحر، والتي تكسبُ كلَّ مرَّةٍ معركةً وتحتلُّ أرضًا جديدةً. بحثتُ عنه لِأخبِرَه أنّ الفلاّحَ تحوّلَ إلى وسيطٍ عقّاريّ (سَمسار)، وأنَّ العصافيرَ لم تعُدْ تُشكِّلُ خطرًا على «الدّرع»، وأنَّ الفزّاعاتِ الالكترونيّة لم تعُدْ تُفزِّعُ الطّيورَ بل صارت في هيأةِ المدافِع الحربيّة يُوجِّهُها بَقَايَا الفلاّحين نحو العدوّ الجديد كيْ تقصِفَ الاسمنتَ المُسلَّحَ و»الياجورَ» الأحمرَ في حربٍ دونكيشوتيّةٍ ماضِيَةٍ نحو الخسارة.

ما زلتُ أبحثُ عن «بيير» إلى اليوم لِأخبِرَهُ أنّ الحياةَ في حمّام الأغزاز تغيّرت. أصبحَ لديها مَعنًى آخرُ.

مزار بن حسن

https://ar.lemaghreb.tn/قضايا-وأراء/item/31884-مَعْنَى-الحياة-في-حمّام-الأغزاز

1 juin 2018

لجنة الدّفاع عن مصالح السّكّان بقليبية (أكتوبر 1950)

لجنة الدّفاع عن مصالح السّكّان بقليبية (أكتوبر 1950)



31 mai 2018

معهد بورقيبة الثّانويّ بحمّام الأغزاز (1985)

معهد بورقيبة الثّانويّ بحمّام الأغزاز (1985)


صورة لمعهد بورقيبة الثّانويّ بحمّام الأغزاز تعود إلى سنة 1985.
فتح المعهد أبوابَه يوم الاثين 19 سبتمبر 1983 بحضور 219 تلميذ (الأولى والثّانية بالنّظام القديم) وبحضور البشير الحميدي والي نابل وحسن قضّوم المدير الجهويّ للتعليم بنابل.

وفي يوم 22 ماي 1984 قام الرّئيس السّابق الحبيب بورقيبة بتدشين المعهد أثناء زيارته لحمّام الأغزاز، وقد حمل المعهدُ اسمَه.
مصدر الصّورة: أرشيف معتمديّة حمّام الأغزاز
http://demnaghozzya.blogspot.com/2013/12/blog-post.html
http://demnaghozzya.blogspot.com/2016/03/13-1982.html

مزار بن حسن

4 avr. 2018

المرحوم: سي المهدي بن محمّد بن الطّالب عبد الرّحمان بن الحاج صالح

المرحوم: سي المهدي بن محمّد بن الطّالب عبد الرّحمان بن الحاج صالح



المرحوم: سي المهدي بن محمّد بن الطّالب عبد الرّحمان بن الحاج صالح

صورة للمرحوم سي المهدي بن الحاج صالح مؤسّس اللّجنة الثّقافيّة المحلّيّة بحمّام الأغزاز وهو يتوسّط السّيّديْن: المرحوم عبد الرّحمان بن حمّودة (يمينًا) ومحمّد بولبيار والي نابل (يسارًا).
المكان: مقرّ المكتبة العموميّة بسيدي عبد السّلام (حمّام الأغزاز)
الزّمان: ماي 1980.
مصدر الصّورة: أرشيف معتمديّة حمّام الأغزاز.
مزار بن حسن