قراءة في كتاب: "محطّات في مَسارِ الأيّام" لِمُحمّد بن اِمحمّد البلاجي:
سيرة صانِعِ السّيوف والدُّروع
كلّما أوغلَ الكاتِبُ صاحبُ السِّيرةِ في تأمُّلِ ذكرياتِه الماضيةِ، أحسَّ بالسّعادةِ تغمُرُ قلبَهُ، ودَبَّ فيه السُّرورُ والانشِراحُ. وكيف لا يُسَرُّ إذا كان اللهُ قد أنعمَ عليه دونَ سائر خَلقِهِ وجعلَهُ يولَدُ ويترعرعُ في "منطقةٍ مِن أجملِ ما خَلقَ وأبدَعَ (...) يَلُفُّ البحرُ جهاتها الثّلاثَ، فيُعدِّل مناخَها ويُلطِّفُ من طباعِ أهلِها؟". تلك هي "قليبية" كما يصفُها الكاتبُ، حقولٌ ومزارعُ تجري من تحتِها مياهٌ تسكُبُها الدِّلاءُ في السّواقي صافيةً مُتلألِئةً. وتنبعثُ من تُرابِها الذي تقلبُه المحاريثُ روائِحُ نديَّةٌ عطِرةٌ، فتُنبِتُ "الدّرع" و"القطانية" و"الدّخان" و"الدّلاّع" و"الهندي" و"الكرموس"... وتختلط بروائح ملح البحر و"السّمك المقليّ والبطاطا المُحمّرة والسّلاطة المشويّة" (1).
الجنّةُ المنيعة:
كلُّ عناصرِ الطّبيعة في تلك الرُّبوعِ تتّحِدُ لِتزْهُوَ كما لا تتّحدُ في أيِّ مكانٍ آخرَ. حتّى العصافيرُ هناكَ ليست كغيرِها، فهي إذْ تطيرُ وتشدُو، "تملأ الجوَّ عبثًا وحُبُورًا، مُنتقلةً بين أشجارِ الإجّاصِ وخمائلِ "الدِّفلة" و"نوّار العشيّة". وما كانتْ لتكونَ كذلك لولا إحساسُها بالأمانِ والمَنَعةِ ويقِينُها التّامُّ أنّها في جِنانِ الخُلدِ المُطلقِ، بل إنّ "الجنّةَ الموعودةَ" كما يزعُمُ الكاتبُ "لا تختلف في شيء عن جنّته التي قضى فيها طفولتَه واِستمتعَ بها في طمأنينةٍ ودَعَةٍ".
إنَّ الإحساسَ بالجنّةِ المنيعة والحصينةِ في الوطن القبليّ عامّةً، وفي قليبية خاصّةً، ليسَ بدعةً من بِدعِ صاحبِ السّيرةِ أو اِدِّعاءً من اِدِّعاءاتِه، بل هو ضارِبٌ بجُذُورهِ في عُمقِ التّاريخ واللّغة. أليست التّسمية القديمة لمدينة "قليبية" هي "Aspis" الكلمة اليونانيّة التي تحمل معنى "المِجَنّ" أو "التُّرْسُ" أو الدِّرع؟ والمِجَنُّ والجَنَّةُ يشتركانِ في جذرٍ واحدٍ (ج/ن/ن)، والفعلُ جَنَّ معناهُ: أخفى وسترَ ووَقَى. والجُنَّةُ، كما في لسان العرب، الدِّرْعُ، وكُلُّ ما وَقاكَ. أمّا الجَنَّةُ فيقولُ فيها ابنُ منظورٍ: "هي دارُ النَّعيمِ في الدَّارِ الآخرة، مِنَ الاِجتنانِ، وهو السِّتْرُ، لِتكاثُفِ أشجارِهَا وتَظلِيلِها باِلتفافِ أغصانِها".
زِدْ على ذلك ما نقلهُ الكاتبُ عن المؤرّخ "ديودور الصّقلّيّ" سنة 90 ق- م الذي وصفَ ما شاهده في طريقهِ من قليبية إلى قرطاجَ قائلا: "أجنّة ذات أشجار مثمرة تشقّها السّواقي تنقل مياهَ العيون الصّافية (...) وأمّا المخازنُ فكانت تفيضُ بالخيراتِ من حبوبٍ وزيوتٍ وبقولٍ وخمورٍ... وفي السّهول كنتَ ترى قطعانَ الغنمِ والبقرِ ترعى في طمأنينة..." ويُضيف المؤرّخ أنّه لولا حالةُ السّلم الطّويلة التي عاش فيها السّكّانُ، ولولا إحساسُهم بالطّمأنينة والاِستقرار لَما اِستطاعوا تحصيلَ كلِّ تلك الخيراتِ (2).
وليس من بابِ الصّدفةِ أيضا أن يُطلِقَ "سي محمّد البلاجي على نفسه اسمَ "محرز" في الرّواية، فقد اِختارَ عمُّه مصطفى هذا الاسمَ حسب قولِه، تبرُّكًا بالوليّ الصّالح سيدي محرز بن خلف سلطان المدينة وحارِسُ حاضرةِ تونسَ. والحِرزُ في اللّغةِ هو الحِصْنُ والدِّرعُ. مع ما نعرفُهُ عن هذه الشّخصيّةِ مِنْ شدّةٍ وصَرامةٍ وبأسٍ في وجهِ الامتدادِ الشِّيعيِّ الفاطميِّ الآتي من الشّرق.
الخطيئة والطّرد:
أمّا لقبُهُ (البلاجي) فهي كلمةٌ تركيّة تعني مِهنةَ صانعِ السُّيوف، لأنّ "البالة" باللّغة التّركيّة هي السّيف الكبير، ولأنّ جدَّه الأوّلَ كانَ حدّادًا، وقد وفد إلى قليبية قادما من "أدرنة" من الأناضول ضمن عسكر الأتراك لِيصنعَ السّيوفَ للجنود. لكِنْ هل يستقيمُ صُنعُ السُّيوفِ في الجنّة؟
يذكُرُ الكاتِبُ حكايتيْن مُنفصلتيْن: الأولى هي حادثةُ الطّرد، طرد الأب (جدّ السّارد) لابنِه (أبو السّارد). والثّانية هي تقدير العائلة للعلم منذ القديم. أمّا الأولى فقد بقيت غامضةً، حيث لم يذكرْ الكاتبُ سببَ طردِ جدِّهِ لأبيه بوضوحٍ، واِكتفى بالقولِ إنّه سألَ أمَّه يوما ما عن سرّ وجودِ منزلهم القديم في ذلك المكان النّائي عن البلدة، فأجابته بأنّه "قد تخطّى التّراتيبَ وأرادَ كسرَ القوانين، فأطردَه أبوه من الدّكّان الذي كان يرتزق منه ومن الغرفة التي كانت تأويه"، وهو ما فعله أيضا مع اِبنهِ الثّاني (عمّ السّارد) ممّا جعلَ الأبَ ينتقلُ إلى "علية الشّوارف" ليُؤسّسَ مملكتَه المستقلّةَ حيثُ فتحت المدرسة العصريّةُ أبوابَها لاستقبالِ "البلاجي الحفيد" (أي الكاتب). إنّ "كسرَ القوانين" هو تعبير آخرُ عن خطيئةٍ ما اِرتكبها الأب فاِستحقَّ غضبَ أبيه وسُخطَه عليه وطردَه من "جنّتِه"، تماما كما طرد الله آدمَ وحوّاءَ من الجنّة بعد أن أكلا من ثمارِ الشّجرةِ المُحرَّمة (شجرة المعرفة)، فكتبَ على ذرّيّتِهما شقاءً أبديًّا.
الحكاية الثّانية هي ما ذكره الكاتبُ من تقليد موروثٍ عن الأجداد، وهو اِحترامُ العلم والعلماء، فقد كان "الحاج حسن البلاجي"، وهو أحد أسلاف العائلة يُنفِقُ جميعَ مكاسبهِ من أجل أن يتنقّلَ أبناؤُه إلى تونسَ ويُباشِرُوا تعلُّمَهم بجامع الزّيتونة. وبذلك نتبيّنُ من الحكايتيْن سِرًّا دفينًا وحِكمةً عظيمةً تتوارثُها عائلة البلاجي وتتناقلُها جيلا بعد جيلٍ إلى أن وصلتْ إلى صاحبِ السّيرة، ويُمكن أن نُلخِّصَها بما يلي:
إنّ البقاءَ في نعيمِ الجنّةِ والتّنعُّمَ بهناءِ العيش تحت ظلالِها مشروطٌ بعدم تذوّقِ شجرة المعرفة، فإذا عنَّ لك أن تتذوَّقَها، عليك بدفع الضّريبة، وهي الطّرد والتّيه والشّقاء. إنّ وظيفةَ البلاجي صانع السّيوف هي أن يصنعَ لابنِهِ سيفًا ودِرعًا، ثمّ يُطالِبُه بالحركة والاِرتحالِ، فيزجُّ به في معتركِ الحياةِ مُنازِلا ومُحارِبًا، ويقولُ له: "فلتصنعْ جنَّتَكَ بكدِّ يمينِكَ وعرقِ جبينِكَ وحُسنِ تدبيرِكَ، ولا مكانَ لك في جنّةِ أبيكَ".
لقد عبّرَ الجاحِظُ عن هذه الفلسفةِ في "رسالة الأوطانِ والبلدانِ" قائلا: "إنّ طولَ المُقامِ مِن أسبابِ الفقرِ، كما أنّ الحركةَ مِن أسبابِ اليُسْرِ (...) وإنّ اللهَ قسَمَ المصالِحَ بينَ المُقامِ والظَّعْنِ، وبين الغُربةِ وإلْفِ الوطنِ، وبينَ ما هو أربَحُ وأرفعُ، حينَ جعلَ مَجارِيَ الأرزاقِ مع الحركةِ والطَّلَبِ. وأكثرُ ذلك ما كانَ مع طولِ الاِغترابِ والبُعدِ في المسافةِ، لِيُفيدَكَ الأمورَ، فيمكن الاِختبارُ ويحسُن الاِختيارُ".
"هيفايستوس وأثينا": الحديد والحرب والحكمة:
في غمرةِ "الحركة والطّلبِ والاِغتراب" التي تحدّث عنها الجاحظُ، وفي إطارِ الخطيئة المُتوارَثةِ في العائلةِ، واللّعنةِ المُتكرِّرةِ جيلا بعد جيلٍ، شملت رحلةُ "البلاجي الحفيد" خارج قليبية محطّاتٍ هامّةً، وفي كلِّ محطَّةٍ تطَأ قدَمُه أرضًا وَعرَةً، بل مُتحرِّكةً ومُتصدِّعةً. وهي الصّورةُ التي عبّرَ عنها "محرز" صراحةً عند نزولِهِ "جيبوتي" التي سمّاها: "بلاد الأدغال والأهوال"، في إطارِ بعثةٍ تعليميّةٍ للتّعاون الفنّيّ، فقد وجد هناك أرضًا بركانيّةً واقعةً في ملتقى الصّفائح التّكتونيّة، وكلّما تحرّكت تلك الصّفائحُ هاجت البراكينُ وتزلزلت الأرضُ. ومثلما تلتقي الصّفائحُ تحت تلك الأرضِ، تلتقي فوقها أيضا قبيلتانِ متصارِعتان: "العفر والعيسَى". أمّا الأولى فهي إيريتريّة تسكن شمالَ البلاد، وهي مُهادنةٌ للعرب. وأمّا الثّانية فصُوماليّة تسكن العاصمة والجنوب، وهي مُناوئة للعرب لأنّهم يعتبرونهم غُزاةً. وكأنّ قدرَ محرز في كلِّ أرضٍ يحُلُّ بها، أن يعودَ إلى مِهنةِ آبائه وأجدادِهِ، فيُذيبَ المعادِنَ ويصهرَ الحديدَ في الحديدِ لِيُخفِّفَ حدّةَ التّوتّر والاحتكاك بين الصّفائح الجيولوجيّة والقبَليّة، وليُخمدَ ثورةَ البراكين والزّلازل ونزاعاتِ القبائلِ والشّعوب. وقد فعلَ مثلَ ذلك عندما كانَ طالبًا في الجامعة، "عميلا مُزدوجا" على حدّ تعبيره، ومُوفِّقًا بين اليمين واليسار في تسيير الأنشطة الثّقافيّة، أو بين نزاعاتِ "ماجر" و"الفراشيش" عندما أصبح في ما بعدُ مُديرًا للمعهد الثّانويّ بتالة.
تُحدّثنا الأسطورة اليونانيّة عن "هيفايستوس Héphaïstos" إله الحديد والمعادن عند الإغريق. وقد اِنتصر لأمِّه "هيرا" إثر خلافٍ جدَّ يومًا بينها وبين أبيه "زيوس" كبير الآلهة. فما كان من "زيوس" إلاّ أن عاقبَه على ذلك، فدفعَه من أعلى جبل "أولمب"، ودامَ سُقوطُه يومًا كاملا حتّى تشوّهت خِلقتُه. ثمّ وجد "هيفايستوس" نفسَه في جزيرة "ليمنوس" بالقرب من بركان "موزيكلوس Mosychlos" حيثُ تعلّمَ صهرَ المعادن وصنعَ الآلات الحديديّة باستخدام النّار والحمم البركانيّة.
وتضيف الأسطورةُ أيضا أنّ الإله "أورانوس" حذّر "زيوس" يوما من أنّ أحدَ أبنائه من زوجته "ميتيس" سيفتكّ منه عرشَه، فذهب إليها وهي حامِلٌ فاِبتلعها. وبعد أشهرٍ أحسَّ بآلامٍ حادّةٍ في رأسِه، فطلبَ من ابنهِ "هيفايستوس" أن يفتحَ له جمجمتَه بفأسٍ، ففعل، فخرجت منها ابنتُه "أثينا" آلهة الحرب والحكمة والذّكاء (4).
لعلّ سيرةَ "البلاجيّ" هي إعادةٌ مُلطَّفةٌ لسيرة "هيفايستوس" الإله المُغترِب والمطرود مِن الجنّة إلى الجحيم (البركان)، صاحب السّيوف والدّروع وسائِرِ الآلاتِ الحديدِيّة التي لا يمكن صُنعُها في جنّةِ الأب، صاهِر الحديد بالحديد، لما فيه من "بأسٍ شديدٍ ومنافعَ للنّاسِ" (5)، ولِما في صَهرِه من براعةٍ وحكمةٍ ومُجاهدَةٍ ومُصابرةٍ.
(1) محمد بن امحمد البلاجي، محطّات في مسار الأيّام، دار زينب للنّشر، ط1، 2018.
(2) جلول عزونة، صفحة مجهولة من تاريخ ماسينيسا بالوطن القبليّ، ضمن كتاب "دراسات حضاريّة عن تونس" دار الإتحاف للنّشر، تونس دون تاريخ، ص 7.
(3) رسائل الجاحظ، تحقيق عبد السّلام محمّد هارون، بيروت، دار الجيل، 1991، مج 2، ج 4، ص109، 112.
(4) ويكيبيديا الفرنسيّة: مادّة: Héphaïstos.
(5) سورة الحديد (58)، الآية: 25.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire