5 mars 2012

الشاعر مجدي بن عيسى: الثورة لم تغيّر المشهد الشعري

الشاعر مجدي بن عيسى: الثورة لم تغيّر المشهد الشعري
شـادي زريـبي هو شاعر مختلف عن البقية، في نبرته آهات وحزن وعاطفة جيّاشة.. أدرك أن الزمن غير الزمن وأن الفعل لا يكون إلا ثوريا ومختلفا.. كاد يلبس بردة إمارة الشعر لولا بعض الجزئيات.. الشاعر التونسي مجدي بن عيسى يسافر وحيدا نحو الآفاق غير آبه بالموجود.. يبحث دائما عن الجديد ولا تهمه الأقاويل.. مجدي بن عيسى فتح قلبه لـ"العرب"، فكان هذا الحوار. *أين يسكن اليوم الشاعر مجدي بن عيسى؟ - أسكن في اليسار من كلّ شيء عاطفيا وفكريا وسياسيّا، هناك حيث مسكن الرحمة والحبّ، ومولد الأحلام الكبيرة، هناك أتقاسم مع العالم من حولي كلّ رغيف تهبني إيّاه حدائقي العاطفية الغنّاء، من قصائد وأفكار ، فأذيعها بين الناس من بيتيّ اليساريّ الرحب والهادئ بعيدا عن المزايدات والتنظير الفجّ، وبين يديّ كلّ الممكنات لتحويل الماضي والحاضر إلى مستقبل ينبض حياة ، وأكثر جاذبية من كلّ البرامج التي يطرحها السياسيون اليوم. أقيم هناك مردّدا أبيات نعيمة الخالدة : "سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر...". * مجدي بن عيسى وتجربة أمير الشعراء؟ - كانت تجربة طريفة ومفيدة، هي طريفة من حيث نظامها المخصوص والذي يعتمد على أمرين متلازمين المهارات الفرديّة ، وضرورة كسب تعاطف الجمهور وتفاعله مع نصوصك لتنال الحظ في الترقي والمرور إلى مراحلها المتقدّمة، وهي مفيدة من حيث أنّها تضمن للمشاركين فضلا عن المردوديّة المالية المزجية، إمكانيات واسعة للتواصل مع تجارب أخرى إلى فترات لاحقة لمدّة المسابقة، إنّ فريقا من البرنامج يظلّ في اتّصال مع المشاركين حتى بعد عودتنا إلى بلداننا، لتشريكنا في ملفات صحفية ، وحوارات، وتحرير زوايا في مجلات أدبية تابعة لأكاديميّة الشعر" الجهة التي تنظّم المسابقة"، كما أنّها تفتح المجال للمشاركين لنشر دواوين شعريّة على نفقة الأكاديميّة ، وكما تدعو البعض لزيارة ملتقيات وندوات من تنظيمها. * ما هو رأيك في واقع الشعر التونسي اليوم؟ - واقع الشعر التونسي هو واقع نصوصه، وهو واقع نقاده بما هم الوسيط الضروريّ لتهيئة قارئ النصّ لتقبّله والتفاعل مع عوالمه الفنية والمضمونيّة، أمّا واقع النصوص فأعتقد أنّه حيّ "فنيا ومضمونيّا" بما يكفي ليصير حقلا لعمل النقاد والباحثين، وهم بالمناسبة الفئة الأكثر تخاذلا وانتهازية في أوساطنا الأدبية ، إلاّ قلّة قليلة من الشباب المتحمّس المعتزّ بتونسيّته وبعض أساتذتنا الأجلاء الغيورين. لقد استطاع النصّ الشعريّ التونسي خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي أن يتمثّل جلّ الروافد الحديثة التي أغنت القصيدة العربية في المشرق خاصة مع البياتي ودرويش وسعدي وأدونيس... كما استفادت بعمق وتفاعلت بحيويّة مع التجارب الشعرية الغربية عبر الوسيط الفرنسي، وهو ما ساهم في أغناء النص التونسي المكتوب في التسعينات، وهي في تقديري المرحلة الأكثر غنى وتنوّعا في المدونة الشعرية التونسيّة، ولكننا لم نقرأ إلاّ القليل من النقد الذي يتناول هذه الفترة الخصبة، فضلا عن كونه نقدا تناول في غالبه تجارب فردية، ولم يشر إلى غيرها، سواء من حيث سوابقه المرجعيّة أو من حيث النصوص التي زامنت نشأته وظهوره وأعطته من صوتها ما به يعلو صوته. * هل أن الثورة قد غيّرت المشهد الشعري؟ - كما غيّر الشعر المشهد السياسي التونسي من خلال صوت الشابي الخالد، وبما هو مدوّنة ساهمت في الحفاظ على القيم الكبرى من حرية وعدالة وكرامة وتغيير، فستعمل الثورة على تغيير المشهد الشعري التونسي والعربي عامة خلال السنوات المقبلة، أمّا القول بأنّ الثورة قد غيّرت المشهد الشعريّ وانتهى الأمر فغير ممكن، لاعتبارين اثنين، الأوّل هو أنّ الثورة بعد ما تزال في طور التشكّل والإنجاز، وهي إذ تعصف بالمشهد السياسي أوّلا سيكون لها تأثيرها على الوضع الاجتماعي ثمّ يلحق التغيير الوضع الثقافي ومنه المشهد الشعريّ، أمّا الاعتبار الثاني فيتعلّق بطبيعة المشهد الشعري التونسي ذاته ، والذي أعتقد بأنّ التغيير لن يطال بنيته العميقة، على اعتبار أنّ عناصره من شعراء ومن نصوص يتماهون في أغلبهم مع خلفيات الثورة وشعاراتها ومع الثقافة التي أنتجتها، ولكن غيابهما عن ساحة الفعل الثوري قبل 14 جانفي كان مرتبطا بشدة القمع الذي مورس عليهما معا الشعراء ومؤسساتهم وجمعياتهم، والكتابة ذات الصوت الثوريّ الصريح وفضاءات نشرها وانتشارها. * انتظرنا الكثير من الثورة، ولكن الأمور بقيت على حالها، ماهو تعليقك على هذا الرأي؟ - هذا تصوّر عاميّ لا يقرأ تاريخ الثورات ولا حركة حياة الشعوب في انتفاضاتها الكبرى، الحقّ أنّ هذا التصوّر يثير فيّا شيئا من الغيظ وشيئا من الرحمة، أني أرى فيه أحيانا أنانيّة وتضخّما للفردانية غريبا على مجتمعنا وتاريخه، كأن لا أحد يفكّر في الذين فقدوا أعزّتهم وقودا للثورة والذين صبروا سنين طويلة في المعتقلات من أجل كلّ التونسيين، فقط يفكرون في مكاسب سريعة، حتى السياسيون منهم والمعتبرين من النخبة، ولكنني أشعر بالرحمة حين أتذكر ما عشناه من تسويف وتأجيل للمطالب الكبيرة العادلة على مدى أكثر من نصف قرن، رغم البداية الواعدة للعهدين السابقين، حينئذ أؤوّل هذا الاستعجال بالخوف الكبير من أن يكون التغيير المقبل ليس سوى وعود تجميليّة لبداية عهد جديد من التسلّط والهوان، كأننا نخاف أن يكسب طغاة جدد الوقت الكافي للسيطرة والغلبة إذا لم نسارع بجني مكاسبنا مما ضحينا من أجله من شهداء وجرحى ومعتقلين في السجون على مدى عقدين. * ما هي وظيفة الشاعر اليوم في ظل المتغيرات السياسية؟ - ظللت أردّد في كلّ مناسبة ، بأنّ جوهر الكتابة هو الإنصات، على الكاتب أن يتحلى بنباهة كبيرة ، ليستطيع أن يرهف السمع لكلّ ما حوله في حياة الناس وحركة الأكوان والمجتمعات ، مهما كانت خفيّة أو صاخبة معلنة، لا لينقلها كما هي ، بل ليستمدّ منها الثابت والقارّ واللازم لوجوده ووجود الناس من حوله، وهو في مشاغل الكاتب والشاعر مجمل القيم التي يحيا بها الناس، دور الكاتب أن يحافظ على حيويّة تلك القيم وشيوعها في الأفئدة والأرواح، كما أنّ دوره يكمن في إعادة رسكلة تلك القيم وإعادة إنتاجها في السياقات المختلفة التي تطرح في الحياة العامة. وفي مواجهة السياسيّ ، سيكون دور الشاعر أكثر إلزاميّة، من جهة المخاطر التي تحيق بالقيم الكبرى حين تقد بين أيدي السياسيين، إنّهم ـ وتلك المفارقة ـ يشتغلون في نفس حقول الشعراء، على اعتبار أنهم أخلاقيون أيضا، منتجون للقيم وحفّاظ لها، وإلاّ بما تقوم الدعوات السياسيّة وتعدّدها واختلافها؟ ولكنّهم أكثر رغبة في احتكارها ضمن برامجهم ومشاريعهم، مما يؤدي إلى تحويلها في الغالب الأعمّ إلى مجرّد شعارات مفرغة من الحياة، مجرّد كلمات، هنا يأتي الشاعر لإنعاشها، وإعادة الحياة لها، وهو يطعمها من روحه ومن مشاعره الإنسانيّة، ويدمجها في السياقات الكونيّة الخالدة، ضمن الخطاب اللغويّ ذي الوجهة الكونيّة بالضرورة، إذا ما تحدّثنا عن الخطابات الشعريّة. * هل استطاع الشاعر أن يلعب دورا في "الربيع العربي"؟ لا نستطيع أن نقيم الحجّة على الشاعر بوصفه مواطنا وكائنا اجتماعيا أو له، فنقول أنّه شارك أو لم يشارك ، فذلك شأن شخصيّ مرتبط بظروف كلّ شخص، أنا شخصيّا لم أكن في تونس أيام الثورة، وعندما عدت كان النظام القديم قد أخلى مواقعه للثورة وللشعب الثائر، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر مساهمتي في صناعة الثورة من خلال ما كتبته على مدى عقدين في القصائد والروايات، أنا وغيري من شعراء بلدي من الشابي إلى اليوم. ما أريد أن أقوله من خلال ذلك إنّ إنكار دور الشاعر بوصفه منتجا للنصوص التي تمجّد القيم الثوريّة الرافضة للسكون والخمول والهوان والداعية للحريّة العدالة والكرامة، يمثّل عندي علامة من علامات نكران الجميل للشابي نفسه، والذي استمدّ الربيع العربيّ والعالميّ من بعده شعاره " الشعب يريد " من بيته الخالد " إذا الشعب يوما أراد الحياة...". إنّ دور الشاعر في كلّ التحوّلات التي عرفها تاريخ الشعوب الهادئة منها والعاصفة راسخ وأكيد حتى وإن ظلّ يعيش في ظلّ السلطة، فهو الذي يمدّ الوجدان بالرغبة في التغيير ويزيّن للناس إمكانية تحققه، ويبدع لهم ممكنات وجودهم القادمة، ولكنّه حين تنضج الثمرة ويحين أوان قطافها، ويتحوّل الحلم إلى فعل ، سيكون اللاعبون حينئذ من فئة السياسيين وأشباههم ومن القواعد الشعبية الثائرة، ولذلك لا يظهر الشاعر في الصورة حينئذ، وقد يتهّم بالتخاذل والعيش في البرج العاجيّ ومهادنة السلطة والتمعّش من موائد السلطان ، وهي تهم فيها الكثير من التسرّع والتجنّي والظلم. * متى يكتب الشاعر مجدي بن عيسى؟ - ليس لي وقت مخصوص أكتب فيه، كلّ وقت أجد فيه الفكرة ناضجة وقد اتّخذت زينتها يصلح للكتابة، لا تأجيل ولا تسويف، لآنّ ذلك من شأنه أن يفقد شهوة الكتابة جذوتها ، فتخبو وتلين، ولن تصلح حينئذ الكتابة، ستكون بلا طعم. قد أنقطع زمنا عن الأوراق والأقلام ، ولكنني أكون حينئذ بصدد الاحتشاد ، احتشاد روحي وعاطفي يتخيّر من اللغة جملته القادحة، فإذا تهيّأت تلك الجملة الافتتاحية، ورنّت في داخلي سارعت إلى أوراقي، لتبدأ رحلة معاناة قد تطول وقد تقصر، إلى أن يستقيم النصّ. *ماذا ننتظر من الشاعر مجدي بن عيسى؟ - ما ينتظر من كلّ شاعر، أن يواصل مشروعه الشعريّ ، مقدّما في نصوصه ممكنات جديدة لإقامة أكثر جمالا على الأرض، وأن ينخرط كما كان دائما في معيش شعبه وأحلامه وتطلّعاته ، مؤمنا بها مدافعا عنها بحماسة وإخلاص، على أن يحافظ دائما على لوازم كلّ ذلك ، وهي في اعتقادي الإخلاص لفنّه، فلا يجعله مطيّة لأي طموح غير شعريّ، اقصد هذا الطموح المستشري هذه الأيام بيننا، طموح أن تكون سياسيّا، دون أن يكون لك أيّ دراية بآليات لعبتها وفنون إدارتها. إذا ضمنت لنفسي كلّ ذلك، سأضمن لك كتبا شعريّة وروائيّة كثيرة، قد يكون لها صدى طيّب عندك وعند عامة القراء والمتابعين.