30 août 2012

من ذاكرة الوطن القبلي: حيّ رجال الخروبة بحمام الأغزاز: الذاكرة المقاوِمة

من ذاكرة الوطن القبلي

حيّ رجال الخروبة بحمام الأغزاز: الذاكرة المقاوِمة



رجال الخروبة تسمية قديمة جدا لمكان لا نعرف عن تاريخه غيرَ بقايا الصور واللقطات المنقطعة من شريط الذاكرة الغُزّيّة. المارّ اليومَ من هذا المكان يصعب عليه التفطنُ إلى ما تختزنه الأتربة و الصخور والجدرانُ القديمة والحديثة من أسرار التاريخ والذاكرة، فمبنى مركز البريد الذي ينتصب الآن بطريقة شبه فوضوية في قلب حي رجال الخروبة بحمام الأغزاز هو خير دليل على حجم الخطإ الفادح الذي ارتكبه عن غير قصد المسؤولون السابقون، وذلك بإزالة صرح كبير من الصروح التي خلفتها يد الإنسان في الوطن القبلي، في وقت كانت فيه محتاجة إلى يد مرممة ومنقذة لا إلى يد هادمة وقرارات سياسية مرتجلة. إنها قصور الغُزّية القديمة التي ما زالت بعضُ أطلالها تقاوم هذا الزمن العنيد باستماتة هي أقربُ إلى استماتة آخر المقاتلين في حرب مقدسة خاسرة.
لا نعرف عن سرّ تسمية هذا المكان بهذا الاسم تحديدا إلا ما نسمعه من مراوغات السرد العجائبي التي يمتعنا بها أخباريّو الأغزاز من كبار السنّ، فهم يقولون إنها مقرّ اجتماع أولياء الله الصالحين في زمن كان فيه الإنسانُ في أمسّ الحاجة إلى وليٍّ أو نصير. كانوا يجتمعون تحت شجرة الخروب لينظروا في أمور آبائنا وأجدادنا وما يصلح بهم في أمور دينهم ودنياهم.
لن يجدَ أولياءُ الله اليومَ في حمام الأغزاز "خروبةً" كتلك السابقة حتى يتحلقوا تحت ظلالها الوارفة ويواصلوا مهمتهم المقدسة في ولاية أمورنا وتصريف أعمالنا نحن المنحدرين من أصلبِ أولئك الآباء والأجداد المحظوظين.
لست من هواة البكاء على الأطلال وتمجيد السلف وغير ذلك مما يفعله المحافظون في كل مكان وزمان، ولكن الحد الأدنى من العمل الذي يجب أن يقوم به الإنسان عامة في مثل هذه الوضعيات المتعلقة بالتاريخ والذاكرة هو الإبقاء المادي على شاهد وحيد على الأقل من كل عصر من العصور أو مكان من الأمكنة حتى نتمكّن من الاستقراء والعودة كلما خطر لأحد منا ومن الأجيال اللاحقة أن يعود ويتأمل ولو لحظة خاطفة: كيف كنّا أو كيف كان غيرنا في تلك النقطة بالذات؟
يقول ادوارد سعيد في كتابه: "التمنع، التجنب، التعرف: تأملات حول الهوية": "الهوية الفردية لشخص أو ثقافة ما، تعنينا لأننا إن كنّا سنفقدها، ينبغي على الأقلّ أن نعرفَ ما سنفقد". ص 12.

رجال الخروبة: ما سرّ وجودهم هناك؟ وماذا يفعلون بيننا؟ بل قل ماذا نفعل نحن بينهم؟

الروايات الشفوية تقول إنها مقبرة، أي أنهم رجال ماتوا ودفنوا هناك. لذلك فإن فرضية المعركة والحرب قائمة، خاصة إذا علمنا أنّ معظم رموز التصوف الديني عامة في جهتنا تدخل في حيز التصوف الجهادي أو ما يمكن أن يسمى أيضا بالرباط الصوفي الذي يتمركز خاصة في المدن والقرى الساحلية باعتبار أن الساحل هو المنطقة الأكثر عرضة للغزو الخارجي عن طريق البحر لا سيما إذا كان الغازي من حضارة أخرى غير الحضارة الإسلامية.
ولا غرابة في هذا الافتراض أيضا إذا علمنا أن معظم الأولياء الموجودين لدينا في الجهة والتسميات الملحقة بهم تعود إلى حقل دلالي واحد وهو الجهاد والحرب. فـ"سيدي عبد الله" (بجوار المكتبة العمومية الحالية بحمام الأغزاز) يسمى في الوثائق:سيدي عبد الله بو مجّاد المهذبي الذي سُمّي به الهنشير الموجود به (بو مجّاد: أي أبو الأمجاد: أي الانتصارات في الحروب)، كذلك "سيدي ناصر" (المعهد الثانوي حاليا) الذي تسميه الروايات الشفوية: "سيدي ناصر جند الشاميّين" يحيل على النصر، وكذلك "سيدي منصور" (أي الذي نصره الله على الأعداء). وفي قليبية هناك "المنصورة" (وهي الأرض التي نصرها الله) و"سيدي البحري" الذي يسمى في الوثائق: "سيدي مصطفى الغازي البحري" وهو قبطان سفينة تركي كان يغزو في البحر ويخوض الحروب على النصارى في البحر المتوسط (مضيق صقلية)، والجغرافيون يسمّون الرأس الممتد في البحر على سفح مرتفع برج قليبية: رأس مصطفى: Cap Mustafa.
كما تشير الروايات أيضا إلى أنّ سيدي عبد الله وسيدي ناصر مثلا ليسا منفرديْن كلّ في مكانه، وإنما كان كل واحد منهما مصحوبا برجال وأتباع يحاربون معه، والدليل على ذلك أن المكانين المذكورين هما في الحقيقة مقبرتان، مما يعزز الفكرة القائلة إن الوليّين هما قائدان حربيان استشهدا في حروبهما الدفاعية ودفنا هناك مع جنودهما، فهما يدافعان عن الأرض في وجه الأعداء القادمين من قريب أو بعيد، وهي الفرضية التي رجحها المرحوم عبد الرحمان بن عبد اللطيف في كتابه: "صفحات من تاريخ مدينة قليبية".
من الطبيعي إذن أن نلحق رجال الخروبة بفكرة الحماية الدفاعية العسكرية التي لم تنقطع بعد موت جنودها وأبطالها بل تواصلت فكرة الحاجة الطبيعية إلى الحماية والمناعة في ذهنية الإنسان الذي يعيش في تلك الربوع.
إن رجال الخروبة وسيدي عبد الله وسيدي ناصر وغيرهم هم رجال لا يجب أن يموتوا هكذا فجأة وتصبح أجسادهم مجرد ركام من عظام في أديم الأرض، فالبطل الحربي المدافع عن كرامة الإنسان وعن أرضه وعرضه لا يمكن أن يموت بسهولة، وإذا مات فلا ينبغي أن يبقى دفين الأرض إلا قليلا، لأن الإنسان الذي يحتاج إلى من يدافع عنه ويطرد عنه البلاء الخارجي لا يرضى بالبطل راقدا تحت أرضه يتفرج على ظلم الظالمين وقهر المستضعفين ولا يحرك ساكنا، بل يريده أن يُبعث حيا وينتفض من رماده ليواصل رسالته الدفاعية النبيلة بدلا منه.هل يُعقل أن يموت البطل والمعركة لم تنته بعد؟
لا شك أن هذا البعث العاجل للبطولة ليس بعثا ماديا أو روحيا كما نعرفه في ثقافتنا، بل هو بعث يتم في المخيال البشري: هو إعادة إنتاج فكرة مقاومة العدو بعد أن تعذّرت مقاومته الفعلية على أرض الواقع، أي بعد موت الفارس البطل؛ هو إنتاج خطاب المقاومة والدفاع ونقلُه من ميدان الحرب إلى ميدان الفكر، إنه ترجمة لكلمات الصراع من لغة السلاح إلى لغة الفكر: من لغة الحرب إلى لغة السلم؛ إنها لغة مختلفة تقاوم الحرب بتأسيس ثقافة السلم، أي بالرجوع إلى ما في الذات البشرية من صفاء ونقاء.
وقد تعرضت الباحثة S- J- Webber التي قضت مدةً لا بأس بها بقليبية وخالطت كثيرا من الشباب وغيرهم من أهالي المدينة والمناطق المجاورة، من خلال نقل بعض تفاصيل المخيال الشعبي أو تخيّل أبناء المنطقة لتاريخهم القريب والبعيد، في مقالها: Romancer le réel : histoires populaires racontées à Kélibia- Tunisie, In Espaces publiques au Maghreb et au Machrek. إلى ما يشبه هذه الفكرة عندما تحدثت عن طريقة سرد أبناء قليبية لحكايات بطولية عن علاقتهم بالألمان وغيرهم من الجنود الذين مروا من المنطقة هروبا من المعارك إلى إيطاليا عبر البحر.

إن الروايات التي سمعناها من كبار السن الذين شهدوا الاستعمار الفرنسي والحرب العالمية الثانية التي مرت بجانبنا، تريد يائسة أن تقنع شباب اليوم بأنّ القنبلة، فرنسية كانت أم أمريكية... إذا سقطت على رجال الخروبة أو سيدي عبد الله بحمام الأغزاز أو سيدي مصطفى وسيدي احمد بن حمودة بقليبية، فإنها لا تنفجر، لا لشيء إلا لأن قداسة المكان هي التي أبطلت مفعولها. إن القنبلة إذا اقتربت من المجال المقدس سرعان ما تنسى الوظيفة التي من أجلها صُنعت، ألا وهي وظيفة الانفجار والفتك والتدمير. إنها تكنولوجيا تنكر ذاتها بذاتها، فليست لها ذاكرة. أما ذلك المكان المقدس الذي ارتبط سابقا بالحرب والمقاومة فلا يمكن أن ينسى ولا يمكن أن يتنكر لماضيه الذي كان حافلا بالمجد والنصر يوما ما. إنّ "نجاعة التكنولوجيا" لا يمكن أن تصمدَ أمام "قوة الذاكرة".
 ذلك ما أكّدته الوقائع عندما اتّخذ مسؤولو حمام الأغزاز ذلك القرار الخاطئ باستخدام تكنولوجيا الجرافات والبلدوزير لهدم معلم رجال الخروبة، فالشخص الوحيد الذي عارض قرار الهدم وقاومه بكل ما أوتي من قوة إلى آخر لحظة هو الفنان الرسام: عبد الرحمان الجنحاني (شهر حيدود) الذي استبسل آنذاك في الدفاع عن الأثر، وعندما تيقن أنّ الهدم آت لا ريب فيه أتى بجهاز تصوير ليوثق المعلم بالصور ويلقي النظرة الأخيرة عليه. ألف تحية لهذا الرجل العظيم الذي ما زال يقاوم إلى حد الآن آلة العولمة الطاحنة التي لا يجسر على الوقوف أمامها إلا عظماء الناس من أمثاله.
إذا كان قدرُ التكنولوجيا أن تكون محارِبة، فإنّ قدر الذاكرة أن تكون مُقاوِمة.


تحية ود وعرفان للمرحوم الحبيب بلحاج علي والسيد طارق بن الصادق بن حمودة الذين مكناني من الحصول على الصور.

مزار بن حسن
hmazar2001@yahoo.fr
جريدة "صوت الوطن القبلي التونسي"
العدد: 12
01 أوت 2012
ص: 14

Aucun commentaire: