19 janv. 2008

سيدي عمر اسحاق المعاوي(ت-1238هـ؟/ 1822م؟) مزار بن حسن

(سيدي عمر اسحاق المعاوي(ت-1238هـ؟/ 1822م؟ الجزء الأول): محاولة تعريفه وحكايته مع الباي)
مزار بن حسن
سيدي عمر اسحاق (أو ابن اسحاق)[1] بن علي بن معاوية المجذوب (المدفون في فرتونة) بن داود (القتّال) بن حسين بن قاسم بن احمد بن محمد بن سيدي معاوية الشارف (أو الشريف). هو ولي من أهم الأولياء المنحدرين من سلالة المعاوين المعروفة في جهتنا، ولا شك أنّ هذه النسبة قد رفعته في نفوس أهالي جهة الدخلة القِبلية إلى أعلى مراتب الشرف والوَلاية، وما زالت آثارُ هذه القيمة الروحية حيّةً نسبيا في وجدان بعض المعاوين أو بعض كبار السنّ من الجهة. وقد حاولت أن أرسمَ ما بدا لي (أو ما تبقى لنا) من ملامح هذه الشخصية التي يبدو أنّها مصرّة كلَّ الإصرار على غموضها وتعقيدها، وذلك بالعودة إلى عدد قليل جدا من المصادر المكتوبة، مع الاعتماد بالأساس على المصادر الشفوية التي تمكنت من سماعها من بعض كبار السنّ في مكان واحد هو حمام الأغزاز، وهو ما يعني أنّ هذا البحث ليس إلا مساهمةً في إثراء الدراسات (إن وُجدت) المتعلقة بهذه الشخصية من زاوية واحدة ومحدودة جغرافيا. بعد استقرائنا لهذه المصادر المختلفة يمكننا القول إن سيدي عمر اسحاق عاش في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي وبداية القرن الذي يليه، أي ما يقابل اواخر القرن الثاني عشر الهجري والنصف الاول من القرن الذي يليه[2]. كان في الفترة الأخيرة من حياته على الاقل سيّد المعاوين كلهم والمتحدث باسمهم كما سنرى في حكايته مع الباي. ويبدو انه قضى معظمَ حياته في التنقل بين قرى وبلدان الوطن القبلي، وأن تنقلَه هذا لم يكن فقط في شكل زيارات سياحية عابرة، وإنّما يُستقبل بحفاوة الضيف المبجل المرغوب في زيارته وبقائه شعبيا ورسميا، ويجالس كبارَ الأعيان والوجهاء، ويلقى الاحترام اللائقَ بمقامه الذي يجمع بين الصلاح والتقوى باعتباره وليا، وبين الشرف باعتباره منتسبا إلى المعاوين الأشراف العلويين، إذ تذكر المصادر مثلا أنه كانت له زاوية خاصة به في قليبية[3]، ولا يبدو تنقله هذا ذا صبغة وظيفية، فلم يُؤثر عنه ما يدلّ على أنّه يمارس التجارة مثلا أو بيعَ المحصول الفلاحي باعتبار أنّ المعاوين يمارسون النشاط الزراعي من خلال الأراضي الوقفية[4]، كما لا يوجد ما يدلّ أيضا على أنّه مؤدب صبيان (مثل كثير من المعاوين) لأنّ ذلك يتطلّب الإقامة شبه الكاملة والاستقرار كما هي الحال مع سيدي احمد بن حمودة المعاوي في قليبية أو الطالب احمد بن عمارة المعاوي في حمام الأغزاز في وقت لاحق، بل نميل أكثرَ إلى أنه كان أمّيا[5]. ومهما يكن من أمر فإنّه لا بد أن نرى في تنقل هذا الرجل شيئا من ملامح التنقل الأبوي الرعوي الذي نعرفه في الثقافة المسيحية، حيث يستغلّ الناس قدومه ليتسابقوا في الحصول على مباركته وتأييده مثل المشاهد التي نراها اليوم في زيارات البابا للأوساط المسيحية في كافة أنحاء العالم. لكنّ سيدي عمر اسحاق لا يكتفي بذلك، بل يتجاوزه إلى حدّ إقامة علاقات مصاهرة مع أهالي البلدان التي يزورها فيزوجونه بناتهم ويوفرون له السكنى بينهم، ويذكر Weyland أنّ له ذريةً في "المعيصرة" (قرب "أم ذويل")[6]، كما نعلم أيضا أنه تزوج امرأة من حمام الأغزاز كما سنرى لاحقا[7]. لا يمكن على كل حال إنكارُ الحيز الواسع الذي كان يحتله سيدي عمر اسحاق في قلوب الناس في تلك الفترة الهامة من تاريخنا المحلي، حتى نسبوا إليه عددا كبيرا من الخوارق والكرامات، أحاول أن أحصر ما تمكنت من جمعه في أربع حكايات، تتصل الأولى بما جرى بينه وبين الباي كما نقله إلينا ابنُ أبي ضياف، والثلاث الباقيات بما حدث له مع أهالي حمام الأغزاز. 1- حكايته مع الباي[8]: عندما توفي الباي حمودة باشا في سبتمبر 1813 (1229هـ) أشارَ الوزير صاحب الطابع إلى أن يتولّى عثمان (أخو حمودة باشا) الأمرَ بعده رغم عدم أهليّته (لأنه كان ضعيف الشخصية) ورغم أنّ العرف جرى بأن يُنصَّب الأكبرُ سنا في العائلة الحسينية، وهو في هذه الحالة ابنُ عمهما محمود[9]. وفي يوم البيعة لعثمان باي: "أتى وفد المعاوين يتقدمهم الشيخ الصالح المجذوب السيد عمر بن اسحاق فقال بحضرته (أي بحضرة الباي): "أين الباي؟" فقالوا له هذا وأشاروا إليه فقال: "لم أره" ثم قال: "من ولاّك؟" فقال له باش حانبة: "أولاه الله تعالى" فقال المجذوب: "أنا لم أولّه" فلطمه باش حانبة بحضرته، فأنكر (أي الباي) عليه ذلك وقال له بصوت خفي: "الامر بيد الله وهذا رجل مجذوب ينبغي احترامه". يأتي ابن أبي ضياف بهذه القصة في سياق تدلاله على ضعف شخصية الباي عثمان، وكذلك ليُبين انّ عدمَ رضا هذا الولي الصالح ورفضَه لمبايعة الباي إنما كان عن علم سابق بالسرّ الذي لا يعرفه غيرُه وهو أنّ هذا الباي لا يصلح لأن يتولى أمر البلاد وأنّ فترةَ ولايته ستكون قصيرة. وهذا ما حدث فعلا، حيث أنّه سرعان ما خلفه غريمُه محمود باي بعد أشهر قليلة، وفي مدة ولايته بنى للشيخ عمر اسحاق زاويته التي بها الآن قبرُه (ما زالت موجودة إلى حد الآن في سيدي معاوية[10]) عرفانا له بموقفه المؤيد له[11]. ولسائل أن يسأل هنا لماذا اختار ابن أبي ضياف هذه الحادثة بعينها للتعبير عن حالة الرفض لتولية هذا الباي مع أن هذه الحالة يبدو أنها كانت أوسع وأعم بكثير؟ أو لماذا وقع اختصار موجة الرفض في شخص سيدي عمر اسحاق مع أنها لا تقتصر عليه وحده؟ التفسير الذي أقترحه هنا هو الآتي: إنّ الجهة أو الكتلة المعارضة لتولية عثمان باي (والتي من الطبيعي أن يكون غريمُه محمود باي هو الذي يتزعمّها) من صالحها أن يأتي الموقفُ المعارض لعثمان على لسان ولي يحظى بالاعتقاد الشعبي مثل سيدي عمر اسحاق، لذلك أرجّح أنّ هذه الكتلة هي التي ساهمت في توجيه الأنظار إلى حادثة "الرفض المعاوي" وسارعت إلى إخراجها من دهاليز البلاط السرية ودفعها إلى واجهة التاريخ حتى تكونَ واضحة للعيان ومُرشحةً بسهولة لأن تُفهم سندا متينا وشاهدا قويا على عدم أهليّة عثمان، وبالتالي على أحقية محمود بالعرش. فالدور الذي قامت به المعارضة إذن (أو شجّعت القيامَ به على الأقل) هو إحكام الربط بين "رفض الصالحين" وبين "عدم الأهلية" وتبديد الالتباس الممكن وقوعه بينهما، وذلك من أجل تسريع وتشريع التخلص من الغريم غير المرغوب فيه، أو بتعبير أدق، من "اللوبي" الذي يختفي وراءه (ويتزعّمه صاحب الطابع). وفي كل الحالات استطاع سيدي عمر اسحاق، بوعي منه أو بدون وعي، أن يكونَ ورقةً رابحةً في يد محمود باي استخدمها (أو جاءته هكذا مصادَفةً مثل ورقة "الجوكير") ليرجح بها كفّةَ التأييد له في نهاية اللعبة السياسية - يتبع. ] [1] حسب شجرة المعاوين التي أثبتها J- Weyland في كتابه عن الوطن القبلي: Le Cap Bon: Essai historique et économique, 1926, p43. والتي أخذت منها هذا النسب، فإن اسحاق هو اسمه الحقيقي أما عمر فهو الغالب في الاستعمال لدى الناس، لكنّ هذا الكاتب يستخدم أيضا عبارة "ابن اسحاق" في الصفحة ذاتها. والذي شجّعني على عدم استخدام كلمة "بن" هو أنّ أباه – حسب تلك الشجرة- اسمه "علي" وليس "اسحاق". وأعتقد أنّ تلقيبَه بهذا اللقب يخفي بين طيّاته حكايةً مؤسِّسة Mythe fondateur من الممكن أن نعثر عليها يوما ما، وسنعود إلى هذا اللغز في الحكاية الأخيرة (الجزء الثاني من هذا المقال). [2] يرجح الاستاذ عبد الرحمان بن عبد اللطيف أنّه توفي حوالي سنة 1238هـ (1822م)، صفحات من تاريخ قليبية، ص50. [3] وثيقة تتحدث عن كتاتيب الوطن القبلي والمؤدبين والتلامذة تعود إلى سنة 1292هـ (حوالي 1875م) وفيها إشارة واضحة إلى أنّ زاوية سيدي عمر بن اسحاق في ذلك الوقت تُستخدم كتّابا لتعليم الصبيان، الأرشيف الوطني، السلسلة التاريخية، 413/ 35، وثيقة عدد 42213. ويقول عبد الرحمان بن عبد اللطيف إن هذه الزاوية هي اليوم ميضاة للجامع الحنفي الذي تأسس سنة 1918، المرجع السابق، 40-41. [4] نشير هنا إلى أن المعاوين لهم نظام خاص بهم في الزراعة وتوزيع المحاصيل بينهم يحتاج وحده إلى دراسة من خلال ما تبقى من وثائق. [5] لو كان مؤدبا لما التجأ القاضي احمد بن عمار الغزي إلى استقدام مؤدب من قليبية لتعليم صبيان الأغزاز وسيدي عمر اسحاق موجود بحمام الأغزاز آنذاك كما سنرى في الحكاية الثانية. [6] Weyland ، المرجع السابق، ص43. [7] انظر فكرة الزواج من خارج عشيرة المعاوين لدى جلول عزونة، تاريخ عشيرة المعاوين بالوطن القبلي، مجلة "الإتحاف" السنة 12/ عدد 80/ جوان 1997، ص5. [8] ابن أبي ضياف، الإتحاف، الدار التونسية للنشر، ج3/131. [9] المرجع السابق، ج3/120. وظاهر الأمر أنّ الوزير صاحب الطابع التجأ إلى تولية شخص ضعيف الشخصية لأنّ ذلك يسمح له بتوسعة حجم نفوذه في المملكة. [10] هي القبة المقصودة في الأغنية الصوفية: "نمدح الأقطاب": رجال المعاوين امالي القبة المبنية [11] انظر عبد الرحمان عبد اللطيف، المرجع السابق، 50. والمؤكد أنّ عملية تأييد المعاوين لباي دون آخر لا بد أنها تخفي وراءها دوافعَ وأبعادا اقتصادية واجتماعية تتطلّب معرفتها بحثا تاريخيا أكثر تعمقا. .

Aucun commentaire: